يحلّ رمضان المبارك على «بلاد الأرز» مُثْقَلاً بتشظياتِ «الحرب المتدحرجة» التي تسود جبهة الجنوب منذ 155 يوماً وتُعدّ أطول مواجهةٍ عسكرية في تاريخ الصراعات على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، منذ «فتح لاند» واجتياح 1978 مروراً باجتياح 1982 وعدوان 1993 («تصفية الحساب») و1996 (عناقيد الغضب) وحرب يوليو 2006.

ومع انتقال «الرهان الضعيف» من هدنةٍ في غزة تبدأ مع الشهر الفضيل إلى وقفٍ موقت للنار يُراد أن يتم التفاهم عليه خلال رمضان، لم تخرج جبهةُ الجنوب من دائرة القلق العميق مما ينتظرها في ضوء «الأوعية المتصلة» التي تربطها بالقطاع حرباً ومن دون ضمانةِ قاطعة بأن تنطبق في الاتجاه المعاكس أي على مستوى أي تهدئةٍ بحال جرى بلوغها في أرض «طوفان الأقصى».

وانعدامُ اليقين حيال آفاق الحرب المحدودة حتى الساعة جنوباً سيطبع شهر الصوم الذي لن يكون هذه السنة مزنّراً بحلقةِ أمانٍ فُقدت على امتداد قرى «خط النار» جنوباً ولنحو 100 ألف نازح غادروا بلداتهم، ليطلّ رمضان مُدَجَّجاً بمصاعب العيش بعيداً عن بيوتاتٍ صار المئات منها حطاماً وقرى أصبح العشرات منها أشبه بـ «مدن أشباح»، في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة تلتفّ منذ أكثر من 4 أعوام على أعناق لبنان وأهله.

وفي حين يؤشر النمطُ العسكري الذي تعتمده إسرائيل حيال قرى الجنوب الأمامية (وحتى الواقعة في خطوط أعمق) بأنها تتعمّد إرساء «حزام من دمار» عبر استهدافها الممنهَج للمنازل وحتى غير المأهولة بما يشي برغبةٍ في إقامة شريط «يستحيل العيش فيه» وقد يشكّل «المنطقة العازلة» (بعمق ما بين 7 الى 10 كيلومترات) التي تصرّ على إقامتها (بالحرب الأكبر أو بالنسَق الحالي الأبطأ)، فإنّ انزلاقَ الأمور لِما هو أوسع نطاقاً في ظل استمرار المذبحة في غزة والإمعان في وضْع شعبها في ما يشبه «غرفة الإعدام»، يبقى أمراً حاضراً بقوةٍ في حسابات الميدان كما في الكواليس السياسية والديبلوماسية التي تضجّ بالمَساعي المتعددة الطرف لإبقاء التصعيد جنوباً في دائرة الاحتواء.

وإذ وُضعت الزيارة غير المعلَنة للمعاون السياسي لرئيس البرلمان نبيه بري النائب علي حسن خليل لقطر في إطار الدور الذي تضطلع به الدوحة على خط الأزمة الرئاسية اللبنانية (من ضمن اللجنة الخماسية) ولكن الأهمّ دورها في محاولة بلوغ هدنة في غزة، وحضّها المعنيين في لبنان على وجوب تَفادي ما يمكن أن يجعل جبهته تخرج عن السيطرة في انتظار انقشاع الرؤية حيال الأفق في القطاع ولا سيما أن ثمة أرضيةً لمسارٍ ممرحَل يعمل عليه الموفد الأميركي آموس هوكشتاين في ما خص الجنوب، رغم حاجته للمزيد من الأخذ والردّ قبل أن يتبلور «اتفاق الإطار» في شأنه، فإنّ العارفين باستعداداتِ «حزب الله» الميدانية يشيرون إلى أنه جاهز لكل الاحتمالات ولا يُخْرِج أي سيناريو إسرائيلي من حسابه.

وبحسب هؤلاء فإن «حزب الله» أبلغ إلى حلفاء مفترَضين له سجّلوا اعتراضاتٍ على ربْط لبنان بـ «وحدة الساحات» أنه بخياره فتْح الجبهة استباقياً عطّل إمكانَ استسهال إسرائيل شنّ حرب على لبنان «تريدها الآن أو في المستقبل»، وأنه بعرْض قدراته وجهوزيته العسكرية وبعملياته المحسوبة إنما يَعتمد استراتيجية «إظهار القوة لعدم استخدامها ولمنْع الحرب الكبرى»، وأن إسرائيل فهمت تماماً مغزى إسقاط مسيَّرة لها تحلّق على ارتفاع 18 ألف قدم، وأنها رغم كل توحُّشها فُرص عليها أن تحصر أهدافها بالحزب وعناصره ما يؤدي في بعض الاعتداءات إلى وقوع ضحايا من المدنيين يسارع الإسرائيليون «لإبداء الأسف» بإزاء سقوطهم.

ووفق العارفين أنفسهم فإن هذه المقاربة لا تنفي تَحَسُّب الحزب الكامل لمغامرة إسرائيلية تجاه لبنان «يتهيأ لها» كل محور الممانعة وساحاته، في الوقت الذي تَمْضي تل أبيب في تمهيدٍ إعلامي لحرب أكبر، وهو ما يُقرأ بحسب هؤلاء على أن منسوب التهويل فيه أعلى من أن يكون مخطَّطاً برسم التنفيذ، على شاكلة التهديدات بتوغل بري لا يستقيم الكشف المسبق عنه مع شرط عامِل المباغتة فيه، ولا سيما أن مسالكه الممكنة كلها معروفة ومكشوفة.

وفي الميدان «الحقيقي»، احتدمتْ المواجهات غداة سقوط 5 أشخاص (4 منهم من عائلة واحدة بينهم امرأة حامل) باستهداف الطيران الحربي الإسرائيلي منزلاً في بلدة خربة سلم، قبل أن ينعي «حزب الله» 3 منهم هم جعفر مرجي وابنيه علي وحسن، فيما نقلتْ فرق الإسعاف 9 إصابات من منازل مجاورة لمكان وقوع الغارة.

وفي حين مضت إسرائيل في ضرباتها حيث استهدفت سيارة «كرافان» في منطقة الهبارية بواسطة طائرة مُسيرة مع قصف للعديد من البلدات، نفّذ «حزب الله» سلسلة عمليات بدأها بالردّ «على اعتداءات العدو على القرى الجنوبية الصامدة والمنازل المدنية وآخِرها الاعتداء على بلدة خربة سلم واستشهاد العائلة»، فقصف «مستعمرة ميرون بعشرات صواريخ الكاتيوشا»، قبل أن يهاجم موقع راميا و«تجمعاً لجنود العدو شرق موقع بركة ريشا بالأسلحة الصاروخية» ويشنّ «هجوماً جوياً بمسيرتين انقضاضيتين على مرابض المدفعية في عرعر»، ويستهدف عصراً ثكنة معاليه غولان بالأسلحة الصاروخية، لتعلن وسائل إعلام إسرائيلية بعدها «إطلاق 30 صاروخاً من لبنان باتجاه مزارع شبعا وإطلاق صفارات الإنذار في مناطق عدة في الشمال».

وعلى وقع هذا الصخب، دان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في عظة الأحد، بشدة «ما نشهده في حرب الإسرائيليّين على غزّة ومأساة الشعب الفلسطينيّ»، معلناً «نرفض صمت دول العالم خوفاً على مصالحهم، مضحّين بشعب محروم من أرضه، ومن حقّه بدولة خاصّة به وفقاً لقرار 181 لمنظمّة الأمم المتّحدة المصوّت عليه في 29 نوفمبر 1947 في شأن قسمة فلسطين إلى دولتين: عبريّة وعربيّة وتحديد حدودهما».