يملك الجيش الإسرائيلي نحو 180 ألف جندي وضابط محترف، ونحو 300 ألف احتياطي ينضمّون للخدمة الإجبارية عند الاستدعاء، وقد تم الطلب من عدد كبير منهم الالتحاق للمشاركة في الحرب على غزة وللتحضير لحرب احتمالية متعددة الجبهة.
وبعدما تأكد أن كل الجبهات هي مُسانِدة لغزة، وأن جبهة القطاع هي الأكثر حراجة وكذلك الجبهة اللبنانية مع «حزب الله» من دون أن يكون لهذا التنظيم هدف مهاجمة إسرائيل عبر تخطيه الحدود، تم تسريح عشرات الآلاف من جنود الاحتياط.
إلا أن الإعلام الإسرائيلي رفع الصوت عالياً ليكشف خسائر الجيش المرتفعة وليؤكد أن «الجيش الإسرائيلي يعيش حال صدمة ويطالب بتجنيد 14500 جندي بشكل فوري بسبب المقاومة الشرسة في غزة»... فماذا تُحَقِّق المقاومة؟
تعطي إسرائيل أرقاماً متواضعة حول خسائرها البشرية منذ السابع من أكتوبر، مثل إصابة 3014 ضابطاً وجندياً ومقتل نحو 600 جندي وضابط. وهذا يتناقض مع الأرقام المرتفعة لتعداد الجيش وطلب تعزيز قوات الاحتياط من خلال الدعوة لتجنيد المزيد من القوات لزجّها داخل المعركة واستبدال تلك المنهكة.
وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية كشفت عن معلومات حصلت عليها من المستشفيات ومفادها بأن هناك أكثر من 25.000 مصاب جراء الحرب الدائرة على جبهتين.
وبغض النظر عن عدد قتلى جيش الاحتلال، فإن أهداف إسرائيل بالقضاء على قادة تنظيم «حماس» وتحرير الأسرى الإسرائيليين لم تتحقق. فهذا الجيش ينجح في قتل المحتجزين الإسرائيليين (70 لقوا حتفهم جراء القصف يحسب إعلان «حماس») والمدنيين وتدمير مبانيهم ومباني الأمم المتحدة وتلك التي بنتْها المجموعة الأوروبية.
لكن المقاومة أثبتت جدارتها. فهي لا تملك بنية تحتية تخشى عليها كحال الدولة العادية، وتتحلى بروح معنوية مرتفعة إلى درجة الشهادة في الميدان إذا فُرض عليها ذلك.
والمقاومة تقوي عضدها بالجهاد ضد العدو عقائدياً وبروحِ تضحيةٍ لأنها صاحبةُ حق وأرضُ أجدادِها مغتصَبة وفرصُ الحياة لأبنائها شبه معدومة والمستقبلُ للأبناء مفقود مثلما أفقدت إسرائيل أطفال فلسطين طفولتهم من خلال إذلالٍ وحصارٍ دام سنوات طويلة واشتدّ مع تَعاظُم التعجرف الإسرائيلي غير الآبه بالقوانين الدولية. وهذا يحفّز الفلسطينيين على صمودٍ ليس لخمسة أشهر بل لخمسين شهراً وأكثر.
واستطاعت إسرائيل تدمير منازل تبخّرت وتحوّلت غباراً، ولكنها لم تستطع سلب إرادة المقاتل وهذا ما تجلى في حي الشجاعية في شمال غزة (وأحياء أخرى طبعاً) وخان يونس وحي الزيتون في الوسط والجنوب.
معركة حي الزيتون
يمثّل حي الزيتون نقطةَ تَواصُلٍ لدخول المساعدات الغذائية بين الشمال والجنوب عبر دوار الكويت وشارع صلاح الدين، ويمرّ فيه شارع الرشيد البحري. ويُعتبر هذا الحي من أكبر الأحياء في قطاع غزة وثاني أكبرها من حيث الكثافة السكانية.
ولم تتضرر كتائب القسام وسرايا القدس (الفصيلان الرئيسيان بالإضافة إلى فصائل أخرى) من جولات القصف الجنوني التي بدأتها إسرائيل في الأشهر الأولى الثلاثة التي تلت السابع من أكتوبر، بل صمدتْ بكامل عدّتها وعددها.
فحي الزيتون متداخل مع أحياء أخرى من الغرب والشمال ما يسمح بهامش واسع من حرية الحركة والتنقل والتمركز للمقاومين لم ينقطع يوماً منذ بداية الحرب. وأوجدت المقاومةُ غرفَ عملياتٍ مشتركة قدّرت بأن الجيش الإسرائيلي سيقتحم المنطقة من ثلاثة محاور لا بد منها وهي معروفة بسهولة الاختراق. ولذلك هيئات الكمائن المناسبة لتوقع خسائر كبيرة اعترفت بها إسرائيل.
فقد أقرّ وزير الدفاع يوآف غالانت بأن «إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً»، في إشارة إلى معارك خان يونس وحي الزيتون التي بعثت في الوقت عينه رسائل للداخل الفلسطيني والإسرائيلي وللعالم بأن المقاومة قوية وتبتكر كمائن جديدة وتوقع خسائر بالجيش الغازي وأنها لا تزال قوية.
وهذه الخسائر التي تعترف بها إسرائيل ترفع من حالة الارباك والتردد في صفوف الجيش الذي تمكّن من احتلال أقل من ثلث حي الزيتون لينسحب من جزء منه في منطقةٍ لا تتجاوز الكيلومتر ونصف الكيلومتر.
وتتعمّد المقاومة تدمير رأس القافلة الإسرائيلية المدرّعة التي تندفع داخل الأزقة الضيقة لتوقف تَقَدُّم الرتل بأكمله وتمنع تنفيذ الخطط الإسرائيلية العسكرية لتنتقل إلى اصطياد الجيش المحتلّ داخل مدرعاته وناقلات جنده. لذلك اعتمدت إسرائيل على تغيير خطتها والاندفاع داخل شوارع أوسع مثل شارع صلاح الدين وشارع 8 وشارع 10.
وبقي الجيش في الجزء الجنوبي الشرقي من حي الزيتون حيث الكثافة السكانية متدنية وتنتشر فيها أراضي زراعية. وتُعتبر «كتائب القسام» هناك من أقوى الكتائب المقاومة التي تمرّست في قتال العدو منذ أعوام طويلة وهي تملك الخبرة في حرب الشوارع وتُراكِم الخبرات القتالية.
واعتمدتْ المقاومة على تكتيك الزمر الصغيرة المؤلّفة من أشخاص قليلين، وزمر تعمل على إشغال العدو من «مسافة صفر» وأحياناً من مسافة بعيدة لتضرب وتختفي، وذلك لحفظ القدرات البشرية لتستطيع معاودة الكَرّة وارباك العدو لتشتيت قدراته وتركيزه على القتال وإدخال الذعر في قلبه.
وفي كل شارع، توجد زمر عدة من المقاومة تتناوب في ما بينها لمفاجأة العدو ما أجبره على الانسحاب من محور رئيسي من أصل ثلاثة محاور اندفع من خلالها لاحتلال المنطقة.
الإدارة المدنية والأنفاق
استطاعت إسرائيل تدمير عدد من الأنفاق الممتدة تحت مدينة غزة. إلا أن المقاومة أوجدت أنفاقاً صغيرة نسبياً استخدمتها كفخٍّ لإيقاع الجيش في مكمن القتل، إذ أوجدت أنفاقاً تمتد لـ200 أو 300 متر توهم العدو بأنها مهمة وتَستخدمها المقاومة.
إلا أن بعض الأنفاق تُعّد للتفجير عند دخول قوة محتلة إلى داخلها. وهذا ما حصل في أنفاق عدة أوقعت إصابات متعددة في صفوف الإسرائيليين الذين فشلوا في إيجاد الشبكة الرئيسية غير المتصلة أو المتصلة في ما بينها والتي تمثل العمود الفقري للمقاومة، التي بالإضافة إلى الأنفاق، تتمركز داخل المباني المدمرة التي تقدّم مكامن مثالية لضرب العدو.
وتدّعي إسرائيل أنها تبحث عن نفق يصل حي الزيتون بالمنطقة الوسطى وبالشمال والجنوب حتى رفح، يتنقل فيه لواء غزة ولواء حي الزيتون ولواء خان يونس ولواء رفح، ويصل طوله - بحسب تل أبيب - إلى 10 كيلومترات. إلا أن هذا الادعاء لم تثبت صحته ليومنا هذا.
حاولت إسرائيل تحويل فشلها إلى نصرٍ بطريقة مختلفة: إذ قام غالانت بالاتصال بالمخاتير والعائلات المعروفة ليطلب منهم مساعدته لإيجاد إدارة مدنية يكون رأس حربتها تفكيك المقاومة ووقف الحرب، إلا أنه فشل في إقناع الفلسطينيين في غزة الذين رفضوا مشروع الإدارة المدنية التي لم تنجح إسرائيل في تمريره حتى عندما احتلت لبنان عام 1982 وسحبت عملاءها معها عام 2000.
يتضعضع جيش الاحتلال على أسوار شوارع غزة، القطاع الذي يمثل 364 كيلومتراً مربعاً وفشل أقوى جيش في الشرق الأوسط باحتلاله منذ 5 أشهر. وهذا يؤكد على قوة المقاومة وصلابتها وقوة روحية القتال لديها، وضعف هذا الجيش الذي قُهر ويتردد صراخه في أرجاء العالم الذي ينظر إليه بتعجّب وإلى أدائه الضعيف، هو الذي لجأ لصبّ جام غضبه على الحجارة والمدنيين لفشله في مواجهة المقاومة.
إنه جيش يشتهر بقتْل غير المقاتلين والضعفاء ليثبت أنه يقاتل بخوف وهو أوهن من «خيوط العنكبوت».