مضت سنوات طويلة، وشعار الإصلاحات يتردد في الكويت، وهو برنامج تم طرحه لأول مرة في 2010، بخطة تنموية طموحة تصل تكلفتها إلى 100 مليار دولار، ومن أهدافه تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط وتقليص الإنفاق الحكومي وتقوية دور القطاع الخاص في توظيف المواطنين، ليرفع عن كاهل الدولة ميزانية رواتبهم الباهظة، ويدفع عجلة الإنتاج والتنمية إلى الأمام.
وفي مطلع 2017، أعلنت الحكومة وقتها عن رؤية الكويت 2035، بشعار برّاق يستهدف تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري وثقافي إقليمي جاذب للاستثمار بحلول 2035، لكن عملياً فإن آثار «البرامج» أو «الرؤية» لم تظهر واقعياً حتى الآن، فالدولة لا تزال «كفيل الجميع» وتسيطر على جميع القطاعات المنتجة، فيما تستنزف الرواتب والدعوم معظم المصروفات العامة وبنسبة طاغية.
ويمكن القول، إن هناك تأخيراً كبيراً في تعديل القوانين القديمة وتطويرها، ووضع أخرى حديثة تتلاءم مع الوضع العالمي الاقتصادي تكون كفيلة بتسريع الإصلاح وتمكينه، مع تبني برامج تنموية بإنفاق استثماري عالٍ، أُسوة بدول الجوار التي قررت القفز بقوة في مجال التنمية الكبرى والتنافسية الخلاقة والتمسّك بحبال الإنفاق الاستثماري الطويلة، وليس تقليصها كما فعلت الكويت بواقع 8 في المئة عن السنة المالية الجارية، لتخالف بذلك مسار ميزانيتها عن خططها للتنمية.
تقليص العجز
ورغم ما أظهرته الحكومة من تفاؤل بتقليص العجز المالي في الموازنة الجديدة 2024ـ 2025، البالغ 5.89 مليار دينار، بانخفاض 13.5 في المئة عن الموازنة التي تنتهي في 31 مارس المقبل، إلا أن الفجوة لا تزال ماثلة ومتسعة، بين الصرف على الإنفاق الرأسمالي (2.29 مليار دينار) الذي يستهدف فتح الآفاق أمام المشاريع التنموية وتسريع تنفيذها لتعود منافعها على الإيرادات غير النفطية للدولة، وبين بند الرواتب والدعم (19.5 مليار دينار).
فالأولى - أي النفقات الرأسمالية المخطط لها - لا تمثّل سوى 9.3 في المئة من إجمالي الإنفاق بينما تلتهم الثانية 79.4 في المئة من إجمالي الموازنة، ما يعني أن الدولة لا تزال مقيدة في دائرة الإنفاق الاستهلاكي، وتواجه صعوبة في تقليصه، بسبب الرفض النيابي والشعبي لأي مساس بالإعانات والدعم، في وقت يلعب فيه القطاع الخاص دوراً محدوداً جداً وهو الوحيد القادر على تخفيف الأعباء عن الدولة، فيما لا توجد خطة واضحة للتخلص من عبء الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل مثلما تفعل تنموياً دول الجوار منذ فترة.
ما العمل؟
الاقتصاديون يرون أن اعتماد الكويت شبه الكلّي على عوائد النفط التي تمثل نحو 90 في المئة من إيرادات الموازنة، وصرف نصف هذه العوائد على تمويل الوظائف الحكومية التي تستوعب 75 في المئة من المواطنين، أمر بالغ الخطورة، فلا ضمانة لاستدامة النفط ولا يقين في ثبات أسعاره المتقلبة بسبب التوترات الجيوسياسية المتفاقمة.
ويرون كذلك، أن الكويت لم تتخلص حتى في رؤيتها 2035، من اعتمادها شبه الكلي على النفط، فلا تزال تبني عليه آمالها في استدامة رفاه شعبها وجعلته محوراً لخططها المستقبلية التي بلا ضمانات حيّة. كما أن محدودية ضخها الرأسمالي تغذّي التوقعات المتشائمة حول إمكانية تنفيذ أي خطة لتنويع الدخل، باعتبار أن ذلك يعرقل مسيرة التنمية وينفّر أصحاب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، ما يُضعف فرص التنافسية ويقلل مساهمات القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.
تجارب مربكة
ومرّت البلاد بتجارب مالية مربكة، تجلّت بوضوح خلال أزمة جائحة كورونا، وبلغت مداها حين حذّر وزير المالية آنذاك براك الشيتان من شح السيولة، للدرجة التي قد تعجز فيها الدولة عن سداد معاشات موظفيها، وهو أمر لا ينسجم مع ملاءة الكويت.
وقتها، أثار حديث الشيتان جدلاً واسعاً حول سلامة إدارة الميزانية العامة للدولة التي تتمتّع بأهمية نفطية عالمية، وتملك صناديق استثمارية عملاقة، ولم تنفق على المشاريع الضخمة في البلاد، ولا صرفت على التنمية ولا باشرت عمليات الإصلاح والتطوير التي وعدت بها.. ثم تدّعي العجز؟
«برنامج الحكومة»
الآن، تدخل الكويت تاريخاً جديداً، ملؤه التفاؤل بقدرة سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ الدكتور محمد الصباح، على إخراج البلاد من دائرة الأزمات والانسدادات السياسية، وتتجه الأنظار إلى برنامج عمل حكومته المرتقب، وما سيتضمنه من محاور وأطروحات، يشير مراقبون إلى أن جلّها سيصب في اتجاه ابتكار موجّهات اقتصادية أساسية، تضبط التوازنات بشكل محكم، وتعالج التحديات المالية والهيكلية الناجمة عن الاعتماد الكبير على النفط والقطاع العام، وتعيد الكويت - بالتالي - إلى سكّة التنمية الحقيقية.
وينتظر الكويتيون أن يحتوي برنامج العمل الحكومي، على خطط وإستراتيجيات اقتصادية فعالة بعيدة عن المشاريع الشعبوية التي يطرحها معظم النواب، تكون قادرة على صناعة الوظائف لكي لا تُرهَق ميزانية الدولة، إذ يصعب أن تكون الدولة هي الموظِّف الأوحد، إضافة إلى ضرورة خلق بيئة اقتصادية صديقة للأعمال والاستثمار والتنمية والتقدم الاقتصادي، إلى جانب توسيع دور القطاع الخاص ومدّه بالمحفزات اللازمة ليقود التنمية.
لكن كيف تستطيع حكومة سمو الشيخ الدكتور محمد الصباح مواجهة هذه التحديات الكبيرة بخزانة تلتهما الرواتب والدعوم؟
«الدَّين العام»
أول الحلول التي يطرحها المراقبون، يتجلى حسب اقتصاديين في أن تستمر الحكومة الجديدة في تبني مشروع قانون الدين العام، الذي تقدمت به الحكومات السابقة وقوبل برفض نيابي، مبينين أن إقناع النواب بجدوى تمرير «الدين العام»، قد يكون أحد الحلول لكي تتدبر الحكومة تمويل مشاريع تنموية كبيرة ينتظر أن تخلق فرص عمل وتجذب الاستثمارات وتثري الحياة التنموية في البلاد دون توسعة فجوة العجز المقدرة.
وتكمن أهمية «الدين العام» في الوقت الراهن، بأكثر من اتجاه فمن ناحية يمكن من خلال التعاطي معه بشكل منضبط، تحقيق تنمية بعجز معقول في موازنة تشكل فيها تكلفة الرواتب والدعوم 79.4 في المئة من المصروفات التي يبلغ إجماليها 24.555 مليار دينار.
علاوة على ذلك، يتيح «الدَّين العام» تغذية الإنفاق الرأسمالي، وتقليل اعتماد الدولة على للنفط كمورد وحيد، وهي عوامل تقتضي التعاطي مع مصادر تمويل مضمونة ومجربة لتجاوز الفجوات النقدية.
فاستمرار العجز سيؤثر على مشاريع الحكومة وخططها وبرامجها ويعيق قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، الشيء الذي يقابله صدام نيابي دائم ومشاكسات لطالما سدّت الأفق السياسي وعطلت مسار التنمية.
نقطة ضوء
الموازنة الجديدة تشير إلى أن إجمالي الإيرادات المقدرة تبلغ 18.6 مليار دينار، بينها 16.2 مليار دينار إيرادات نفطية، بانخفاض 5.4 % عن الموازنة الحالية، بينما قُدّرت الإيرادات غير النفطية بـ2.4 مليار دينار، وبنسبة ارتفاع لا بأس بها تبلغ 5.7 % عن موازنة 2023 ـ 2024، ما يمثّل نقطة ضوء يمكن الاستهداء بها مستقبلاً.