كم هي صغيرة في حجمها، وكم هي دقيقة في تفاصيلها، تتسع وتضيق، تبهر وتنبهر، تسحر وتنسحر، مجردة بقدر بعدها عن التجريد... فأوصافها لم تصب مقتلاً كما هي بنفاذ بسهامها. هذه قصة العين التي تجوب الأماكن الواسعة، وهي ساكنة في محجرها، فيسيل صاحبها، ان أراد وتأثر، تلك المشاهد الى كلمات حبكت جماليتها رؤية مبدعة.«بعيون عربية» طرقت «الراي» أبواباً موصدة لخصوصيتها في الشرق والغرب، في مصر، المغرب، الجزائر، موريتانيا، الســـودان، اليمـــن، تركيـــا، فرنســـا، بريطانيــا، وكوبا، فلم يحرقها قيظ الصحراء ولم ينل منها برد الطقس وبعد السفر. كانت العين تتنقل بين جماعات وأشخاص أثارت قضاياهم الجدل، فتلخص ما تغرفه من بحر المعاينة، لتنسكب لحظات للذكرى. كل له مشكلته، كل له طريقة حياة، كل يستحضر التاريخ، وكل يفتش عن المستقبل والأمل وشذى الحياة. جماعات وشعوب تبحث عن هويتها وسط العولمة، أحياناً تحمل السلاح، لعل في لغة البارود حلاً بدلاً من لغة الحوار، لكن غالباً من دون جدوى. ومن بين ثنايا المشاكل تظهر الجماليات، فالمقلب الآخر للأزمات قصص تنبض بالحياة. كم هذا الانسان عظيماً عندما يطلق العنان للابداع، وكم هو ضعيفاً عندما يترك المشاكل تقيده بأصفادها. لكن يبقى لكل انسان، ولكل جماعة، فلسفة خاصة في الحياة. ولذلك تعرض «الراي» على حلقات تفاصيل رحلتها بين الأماكن التي يجمعها الانسان وتفرق بينها القضايا والحدود.
«القاعدة» في المغرب... معركة إثبات وجود
| الدار البيضاء - من سامي كليب |
في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، جادة جميلة وأنيقة وبرجوازية، قائمة بين صفين من الاشجار الوارفة الخضراء، وتنتشر عند ضفتيها بعض مقاهي الأرصفة، ومصارف، وشركات كبيرة وقنصلية ومركز لغوي أميركي، ومعبد يهودي، ومركز للاستخبارات المغربية.يطلق على الجادة الجميلة اسم «مولاي يوسف» تيمناً باسم سلطان المغرب الذي تولى العرش بعد تنازل السلطان مولاي عبد الحفيظ عن السلطة (التي تسمى هنا بالمخزن) في أعقاب توقيع معاهدة الحماية. في تلك الجادة البرجوازية الأنيقة، فجر عدد من الانتحاريين انفسهم على مراحل متعددة كان آخرها 10 و 14 أبريل الماضي، وتبين أن بعضهم جاء من الأحياء الفقيرة المحيطة بالدار البيضاء، أو جاؤوا من السجون. تزامنت تفجيرات المملكة المغربية، مع مثيلات لها أكثر دموية وأدق تخطيطاً وأشد إيلاماً في الجزائر، بحيث إن أحد التفجيرات استهدف مقر رئاسة الوزراء التي من على رأسها كان عبد العزيز بلخادم، غالباً ما يعد شعبه تماماً كالرئيس عبد العزيز بوتفليقة باستئصال ما بقي من «إرهابيين» في البلاد.من هم « الإرهابيون» الجدد؟ ما هي عقيدتهم؟ ما العلاقة الفعلية التي تربطهم بتنظيم «القاعدة»؟ وهل لاعتداءاتهم علاقة مباشرة بالسياسة الاميركية في المنطقة؟ «والله سيخربون بيوتنا، الله يجازيهم»، يقول سائق التاكسي الحمراء الصغيرة، وهو ينحرف بنا من جادة مولاي يوسف صوب حي سيدي مؤمن القائم في إحدى الضواحي الفقيرة للدار البيضاء حيث بيوت الصفيح تنافس بعددها المتسولين أو أصحاب اللحى والقمصان البيضاء النازلة حتى تحت الركبة تيمناً بما عليه الحال عند بعض السلفيين المتأثرين بأفغانستان وباكستان وغيرهما. وعند التقاطع بين جادة «مولاي يوسف» وجادة «أنفا» يقف بائع الصحف مراقباً عشرات الجرائد المنتشرة على الأرض حيث يتوقف المارة يقرأونها وقلما يشترونها. يخشى عليها من السرقة او من تقلبات الطقس في ذاك اليوم الربيعي الماطر. عشرات العناوين تروي قصة أولئك الشبان الذين قصفت أحزمتهم الناسفة أعمارهم وربيع الأعوام، فتمزقوا أشلاء عند عتبة القنصلية الاميركية أو المركز اللغوي الأميركي أو وسط الجادة الأنيقة. «أنصحك بأن تقفل نافذة السيارة وأنت تتحدث على الهاتف»، يقول السائق، فهنا، حتى في الشوارع الأنيقة، يمكن أن يداهمك شاب على دراجة نارية او مهرولا ويخطف الهاتف اثناء الحديث، ثم يذهب لبيعه في سوق الممنوعات الشعبي الحامل اسم «درب غلف».والدرب عبارة عن محال تجارية متداخلة بشكل عشوائي في احدى ضواحي الدار البيضاء، وتبيع كل شيء: ثياب ذات ماركات عالمية مزورة او مهربة، هواتف مسروقة او جديدة، صحون لاقطة، أحذية، أدوات كهربائية.... وهنا في هذه المحال يعمل بعض عباقرة المعلوماتية والاجهزة الالكترونية الحديثة بحيث يمكن أن يعدلوا أو يغيروا اي نظام متلفز أو أي شيفرة للصحون اللاقطة والتلفزات العالمية أو أي برنامج هاتفي أو غيره، وهنا يمكن شراء اي فيلم عالمي بمجرد خروجه الى الصالات الكبيرة، لا بل ربما حتى قبل خروجه، ويتندر أهل الحي التجاري اللاشرعي بالقول إنه بمجرد ان يفكر المخرج بفيلم، يباع فيلمه في «درب غلف». تصدح موسيقى الافلام هنا، ويعلو صوت القرآن الكريم. التزوير شيء والإيمان شيء آخر. يختصر «درب غلف» جزءاً من الواقع المغربي، بحيث إن الايمان هو في صلب المجتمع، ولكن كل شيء آخر ممكن. لم يكن من السهل التعرف على منزل محمد وعمر ماها الشقيقين اللذين فجرا نفسيهما في جادة مولاي يوسف، فالناس تتردد في منطقة «درب سلطان» الواقعة في ضواحي الدار البيضاء، في الإفصاح عن المعلومات حولهما غير تلك المعروفة، والتي مفادها أن احدهما كان يعمل في الرسم على القمصان والثاني يحب الرياضة وأنهما كانا يوحيان بكل شيء سوى باحتمال انتمائهما إلى «القاعدة» أو الى أي خلية ارهابية. يشير بعض الجيران، والريبة مرافقة لكلامهم، إلى أنهما كانا متوسطي الحال، بحيث إن تجارتهما القائمة على الرسم على القمصان تؤمن لهما مدخولاً جيداً، وكانا بعيدين عن الشبهات وإن سجلهما القضائي والشخصي خال من أي سوابق، وكل ما في الأمر أنهما أكثر انطواء من غيرهما. يختلف وضعهما عن أوضاع الكثير من أبناء الحي المتواضع، حيث تنتشر بيوت الصفيح، والأزقة الضيقة الوسخة، والوجوه المشككة بكل عابر سبيل، وتعلو أصوات الشجار من أماكن مختلفة، وتختفي الوجوه النسائية السافرة. للمكان شكل ورائحة تذكر بمخيمات اللاجئين في أسوأ أوضاعها. في مثل هذه الأحياء لبى بعض الشبان المغاربة نداء تنظيم «القاعدة». قال أبو مصعب عبد الودود زعيم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»: «لقد قررنا أن نعتمد من الآن فصاعدا اسلوب العمليات الاستشهادية كخيار استراتيجي في المواجهة بيننا وبين أعدائنا...ونحن نبشر أمتنا ونبشر شبابنا ونقول لهم إن قائمة الاستشهاديين عندنا صارت طويلة وهي تزداد كل يوم». وفي حديثه لـ «الراي» يقسم الباحث والخبير في الشؤون الاسلامية محمد ظريف (صاحب عشرات الدراسات والمؤلفات)، الشبكات «الإرهابية» في المغرب إلى ثلاثة أقسام، ويقول: «إن أضعفها هم المنفذون الذين يمكن القبض عليهم بسهولة إن لم تقتلهم أحزمتهم أو رجال الشرطة، ويأتي بعدهم المسؤولون عن استقطابهم وعن توفير الدعم اللوجستي لهم، وأخيراً المخططون، وهم الذين قلما يتم القبض عليهم أو التعرف على هوياتهم الحقيقية ما لم يعلنوا بأنفسهم عنها كما حصل منذ مدة في الشريط المتلفز عبر قناة الجزيرة. ويضيف أنه من ناحية العمليات الانتحارية يتبين أيضاً ان هناك ثلاثة أنواع من المنفذين، الاول هم الذين لا يفجرون أنفسهم بحيث إنهم لو لوحقوا، يرمون الحزام الناسف، وهؤلاء يكونون عادة حديثي التدين والالتحاق بالجماعة، والثاني مكون من الذين سرعان ما يفجرون انفسهم عند أي إحساس بوجود خطر أمني، وهم من الذين مروا في السجن أو سمعوا عنه، وبين هؤلاء مثلاً عبد الفتاح الرايدي الذي أمضى نحو عامين ونصف العام داخل السجن، ثم النوع الثالث وهم عبارة عن فئة مطاردة منذ تفجيرات 16 مايو 2003، وهي تعيش حالات تردد بحيث إنها لا تقدم على التفجير الا في حالات شديدية وصعبة». الفقر سبب ولكنه ليس الوحيد وخلافاً للكثيرين من المحللين الذين يردون العنف والارهاب الى الفقر واليأس والاوضاع الاجتماعية الصعبة، فإن ظريف المتابع لشؤون شبكات «القاعدة» منذ أعوام، يؤكد أن الفقر ليس دائماً هو المحرك، «فخذ مثلاً قضية كريم مجاطي الذي قتل في مواجهات مع قوات الأمن السعودية في أبريل 2005، فهو ينتمي الى اسرة ميسورة بحيث إن والده هو من كبار رجال الأعمال، وأمه فرنسية، وهو درس في أرقى المدارس الفرنسية في المغرب قبل أن يصبح مالكاً لـ 65 في المئة من أسهم شركة كبيرة ويملك ملايين الدراهم، وحين ذهب الى البوسنة وشاهد بأم العين ما يحصل للمسلمين هناك، ثم ذهب الى افغانستان عاد ليصبح أحد المسؤولين الميدانيين للجماعة المغربية المقاتلة». ويقلل ظريف من أهمية ما يحكى في المغرب عن اعتقال رؤوس الشبكات الارهابية موضحاً أن «تناقضات كثيرة ظهرت في الخطاب الأمني الرسمي، فحين وقعت مثلاً تفجيرات 11 مارس الماضي، قالت السلطات إن عبد الفتاح الرايدي الذي فجر نفسه هو المسؤول الأول، ثم وقعت أحداث مشابه بعد أسبوع فقالت إن المسؤول الأول هو المدعو خالج العباسي». ويرى الباحث المغربي أن رسائل العمليات الارهابية الأخيرة كانت واضحة، فهي جاءت أولاً تلبية لنداء «القاعدة»، ما يعني ان الاستقطاب الأيديولوجي في المغرب العربي بدأ يلقى صداه، ثم إن المخططين سعوا إلى تحسين صورتهم بحيث تجنبوا المدنيين. السجن يخرج إرهابيينالسجن هو بعد الفقر أحد أسباب رمي بعض الشبان في أتون الإرهاب. كانت سيارة التاكسي الحمراء تجوب شوارع الدار البيضاء، حيث النساء المحجبات أقل بكثير من اللابسات أحدث الثياب الغربية التي تكشف أكثر مما تحجب، وكانت واجهات البارات والملاهي جاذبة بألوانها المتعددة. وبين التناقضات الكثيرة ترتفع اللوحات الدعائية حديثة العهد رافعة شعاراً يقول «ما تقيش بلادي» (لا تلمس بلادي) ومكتوبة على كف، وهي موجهة بالدرجة الأولى إلى الإسلاميين والإرهابيين. يتذكر زائر الدائر البيضاء، السجون في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والتي كان أكثرها جوراً ودموية سجن « تزمامرت» حيث قضى فيه سجناء كثيرون حين كان لحمهم يلتصق بتراب الأرض، ويقتلهم المرض أو الجوع أو الحرارة أو اليأس، وخرج منه آخرون فاقدين القدرة على النطق أو الحياة.انتقم آنذاك الملك الراحل من الضباط الذين سعوا إلى الانقلاب عليه وفشلوا مرتين، الأولى في خلال حفل «صخيرات»، حين دخلوا عليه وعلى ضيوفه الأجانب وفتحوا النيران، والثانية حين حاولوا قتله بإطلاق النار على طائرته. نجا، وانتقم، لا بل ورمى في غياهب السجون أيضاً وطويلا عائلة الجنرال محمد أوفقير بعد ان كان هذا الأخير اكثر المخلصين للعرش وملكه. بقي التشدد حاضراً لثلاثة عقود متتالية منذ المحاولتين الانقلابيتين مطلع السبعينات. ولم يأت الفرج وتقم لجان الانصاف والمصالحة الا مع الملك محمد السادس. قال بعض المحللين الغربيين إنه بعد تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، سيلجأ الملك الجديد والشاب المنتفح إلى الانتقام. لم يفعل. ترك الصحافة حرة، والأحزاب حرة، ولم يرم في السجون سياسيين أو رجال رأي، وإنما رمى فيها ارهابيين او مجرمين. وجد أصحاب الأيديولوجيا السلفية في السجون ساحة فضلى للاستقطاب، ويقول الباحث مصطفى الخلفي ذو المعرفة الوطيدة بملفات الاسلاميين من موقعه كباحث، ولكن أيضاً كأكاديمي سابق في الكونغرس الأميركي، إن قصة عبد الفتاح الرايدي نموذجية لتوضيح خطر السجن على تخريج متطرفين ارهابيين. فالشاب الذي فجر نفسه في محل إنترنت في مارس الماضي، والذي قيل إنه كان هناك للاتصال بـ «القاعدة» «تعرض إلى تعذيب شديد حيث كان يعلق مثلاً ليلة كاملة من رجليه في حالات البرد الشديد، ويقال إنه تعرض للاغتصاب. ويمكنك أن تتصور متديناً يعيش مثل هذه الذكرى الأليمة، فيصبح همه الأول الانتقام». ويؤكد الخلفي أن «أخطاء كثيرة وقعت على مستوى السياسة الأمنية، ذكرتها التقارير العديدة التي صدرت عن المنظمات الدولية ومنها مثلاً تقرير (هيومن رايتس ووتش) الذي صدر في مطلع عام 2005، وتلك الصادرة أيضاً عن الفيديرالية الدولية لحقوق الإنسان والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، فهي جميعها أثبتت حصول درجات عالية من التعذيب غير المسبوق واللجوء الى استخدام مختلف الاساليب لانتزاع اعترافات واستخراج معطيات أمنية». ويقول إن قصة الرايدي نموذجية أيضاً «لأنه لم يتعرض إلى التعذيب فقط، وانما جاء من الأحياء المهمشة، فهو كان يقطن منطقة سيدي مؤمن مع اشقائه الخمسة وأمه، وكانوا يقطنون جميعاً في غرفة لا يزيد طولها على ستة امتار وفي ظل ظروف اجتماعية واقتصادية غاية بالصعوبة». وقد شكل ذلك كله أرضية خصبة لقادة «القاعدة» بغية استقطاب الشبان الهاربين من السجون أو الأحياء المهمشة وحديثي التدين، ورفعوا شعارات تخاطب العقل الاسلامي الباطني الراسخ في الاحياء الفقيرة، وزينوا لهم الشهادة التي تعتبر جديدة في المملكة المغربية، خلافاً لما هي الحال في الجزائر او في بعض الدول العربية الأخرى. كان مصطفى الخلفي يقدم آراءه تلك لـ «الراي» في مقهى شعبي في الدار البيضاء، بينما كانت قناة «الجزيرة» تبث شريطاً مسجلاً يؤكد مبايعة الاسلاميين المغاربة لـ «القاعدة»، إذ قال مصعب عبد الودود إن «هذه حرب صليبية على الاسلام ومعركة مصيرية بين الكفر والايمان، فمن فاتته هذه الحرب فاتته فرصة العمر وحرم الأجر وباء بالوزر(...) فلا تتخلفوا عن القافلة وسارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض». ويؤكد عبد الودود ان متطرفي المملكة المغربية لبوا النداء سريعاً وخصوصاً بعد ان تم الإعلان رسمياً عن التحاق الجماعة السلفية للدعوة والقتال في يناير الماضي بـ «القاعدة» إذ بات اسمها تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». العداء لأميركا اللغة الإنكليزية باتت حاضرة بقوة في المملكة المغربية، وهي حالياً لغة رجال الأعمال الشباب، وليس غريباً أن يجد زائر الدار البيضاء إعلانات كثيرة وحديثة العهد لمعاهد إدارة أعمال وتجارة عالمية بأسماء أميركية. تقضم الإنكليزية شيئاً من التراث الثقافي الفرنسي، ولكن حالات العداء للولايات المتحدة الاميركية تتنامى في الوقت نفسه، وتحديداً بعد اجتياح العراق. وقد وجدت «القاعدة» في هذا العداء وسيلة لتمرير خطابها الاستقطابي بسهولة أكثر. ويربط الكثيرون من الباحثين والسياسيين المغاربة، تنامي موجات الإرهاب والتفجيرات بالإعلان الأميركي عن إنشاء قيادة عسكرية أميركية لمنطقة أفريقيا سوف ترى النور قبل نهاية عام 2008. ويقول الخلفي الذي عاش في أميركا أعواماً عدة وعمل الى جانب السيناتور جيم ماك درموت المعارض للسياسة الخارجية الاميركية والمناصر للقضايا العربية: «بات للولايات المتحدة أكثر من 20 مركزاً لدراسة المغرب العربي على ضوء التفجيرات الارهابية، وإنه بعد الإعلان عن (مبادرة الشراكة الاميركية مع الشرق الاوسط وشمال افريقيا) حصل اهتمام متزايد لمراكز الأبحاث الأميركية التي لم تكن في السابق مهتمة فعليا بالمنطقة، فصار مركز كارنيغي يهتم بشكل كبير بشمال أفريقيا، وكذلك الامر بالنسبة إلى مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية، ومعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى والبروكينز وراند. فهذه المراكز الكبيرة كلها وغيرها من المؤسسات الجامعية في جورج تاون أو في مركز الدراسات العربية وتكساس يونيفرسيتي والمعهد الاميركي للدراسات المغربية، تؤكد أن واشنطن باتت تضع منطقة المغرب العربي في أولوياتها». لماذا؟ يدرك مصطفى الخلفي جزءاً مما تريده أميركا، فهو لمس ذلك عن قرب من خلال عمله كباحث وفي معهد كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن وكعضو سابق للجمعية الأميركية للعلوم السياسية. ويقول: «إن ما يحرك أميركا حيال منطقتنا المغاربية يختصر بعوامل عدة، فهذه منطقة استراتيجية ذلك أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي كانت واشنطن أمام تحدي إعادة نشر قواتها الموجودة في أوروبا الغربية لأن الخطر السوفياتي والشيوعي زال، وبدأت عملية إعادة نشر هذه القوات والبحث عن مناطق نفوذ جديدة وتغيير ما سمي بالعقيدة العسكرية والرؤية الاستراتيجية للرد على تحديات القرن الحادي والعشرين. ونحن نعلم ان الميزانية المخصصة للدفاع تفوق 500 مليار دولار سنوياً، ما مجموعه 2500 مليار دولار، ولو قارنا هذه الميزانية مثلاً بتلك المرصودة لوزارة الخارجية نجد أن ميزانية هذه الاخيرة ضعيفة بحيث إن كل ميزانية الخارجية بما فيها المساعدات لا تتجاوز 30 مليار دولار». ويضيف أن منطقة المغرب العربي «تدخل في نطاق ما يسمى بسياسة حماية مصالح الطاقة الاميركية، وهكذا نجد مثلاً أن الاستثمارات الاميركية في مجال الطاقة في الجزائر تفوق ستة مليارات دولار، ويسهل بالتالي إقناع الكونغرس الأميركي بضرورة تخصيص ميزانية لحماية هذه المصالح طالما أنها تدخل أيضاً في إطار البحث عن بدائل للطاقة المستوردة من الخليج، ثم إن العامل الثاني يتمثل بان منطقة الصحراء قد تصبح ملجأ آمناً لتنظيمات وتيارات ارهابية، وهنا تبرز مقولات في اميركا تنادي بالحؤول دون تحويل المنطقة الى افغانستان ثانية». متفجرون هواة يروي سكان وتجار جادة مولاي يوسف شهادات كثيرة عن كيفية تطويق الإرهابيين الحاملين أحزمة ناسفة. يتحدثون عن ركضهم هرباً من الملاحقة، وعن كيفية تفجير بعضهم للأحزمة حين تم تطويقهم. ولكنهم جميعاً يكادون يشيرون إلى أن الشبان المزنرين بالاحزمة الناسفة حرصوا غير مرة على تجنب التفجير وسط المدنيين واستهداف رجال الأمن او المصالح الأميركية. يتذكر المرء كيف أن أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة» كان قد وجه رسالة إلى أبي مصعب الزرقاوي قبل وفاته لتفادي المدنيين ما أمكن. ويقول خبير عسكري مغربي آثر عدم الكشف عن اسمه ان المتفجرات جميعها في المملكة كان ذات «تصنيع محلي»، و«ان العمليات الارهابية كانت استعراضية بأنها لم تؤد عملياً إلا إلى قتل حامليها. ويشرح أن القنابل كانت مصنوعة من مواد يسهل الوصول إليها وتصعب مراقبتها، فهي ليست مواد كيمياوية شديدة الخطورة أو محظورة ومراقبة، وإنما هي عبارة عن مسامير وكريات حديدة وتكاليفها بسيطة بحيث لا تتعدى تكاليف التفجير الواحد أكثر من 1500 درهم. ثم إن الاشخاص يفتقرون للكفاءة العملية، ولو كان ثمة ارتباط فعلي بالرؤوس الأمنية لـ(القاعدة) لكان يفترض ان يتم تدريب هؤلاء الشباب بغية أن يكون لعملياتهم ضرر كبير. وقد تبين أن الانتحاريين شبه معدومي الكفاءة، خلافاً لنظرائهم في الجزائر ذوي التدريب العالي».هل الأمر إذاً مجرد رسالة أولى من «القاعدة» إلى السلطات المغربية؟ يتفق الخلفي وظريف على أن المقصود لم يعد مجرد انتقام من أحوال اجتماعية واقتصادية، وإنما هو تحذير للسلطات القائمة بضرورة عدم اعاقة عمل الإسلاميين، ذلك أن التفجيرات أعقبت موجة من الاعتقالات خصوصاً في صفوف أولئك الذين كانوا يستقطبون الشبان لإرسالهم الى العراق. وفي هذا الصدد يقول ظريف: «إن (القاعدة) باتت على قناعة بأن إقامة الدولة الإسلامية، لا بل الخلافة الإسلامية تبدأ في العراق ومن خلال هزيمة الأميركيين، والخطر الحالي يكمن في أن هذه الأيديولوجيا اخترقت منطقة المغرب العربي وباتت تعتبر الأنظمة القائمة مجرد طواغيط بخدمة الأميركيين».توحي منطقة المغرب العربي بأنها باتت ساحة فضلى للسباق المحموم بين القواعد الأميركية وبين «القاعدة». فهل إن سحب البساط الاقتصادي من تحت اقدام الإسلاميين؟ «ربما ليس الآن. فالمطلوب هو مشروع سياسي جديد»، يقول ظريف. لقد تعاونت السلطات المغربية بقوة مع الاستخبارات الاميركية لدرء الإرهاب، وزجت بالكثيرين من الإسلاميين المتطرفين في السجون، وجاء رجال «سي آي اي» الى قلب المملكة للتحقيق مع المتهمين بالإرهاب، لكن الملك محمد السادس لم يعبر حتى الآن عن رغبة بالسير في ما سار عليه والده من قمع بيد من حديد. ولعل الانفتاح والتحرر والليبرالية السياسية والاقتصادية هي جزء من الاستراتيجية المعتمدة سلطوياً لمحاربة التطرف والظلامية. ولكن إلى متى؟
(بالتعاون مع «السفير» اللبنانية)
النائب الإسلامي مصطفى الرميد: العمليات مقلقة وليست خطيرة
يعتبر مصطفى الرميد شخصية محورية في حزب «العدالة والتنمية»، فالنائب الذي كان قبل فترة رئيس الكتلة البرلمانية لحزبه، يعتبر الرجل الثاني في الحزب والأكثر تشدداً، بحيث إنه غالباً ما كان ينحو إلى المقاطعة. وفي شرحه للعمليات الانتحارية وانعكاساتها على حزبه الإسلامي يقول الرميد من موقعه كعضو في الأمانة العامة للحزب الذي يقوده الدكتور سعد الدين العثماني: «إن العمليات الارهابية التي تمت أخيرا مقلقة وليست مخيفة، مقلقة لأن كل ما هو متفجر ومتفجرات يكون مقلقاً، ولكن في الحالة المغربية ليس الأمر مخيفاً، ذلك لأنه حتى الآن لم تعلن أي جهة ارهابية منظمة عن علاقتها بهذه التفجيرات ولا عن مسؤوليتها عنها». • ولكن منظمة «القاعدة» لبلاد المغرب الإسلامي أعلنت مسؤوليتها المباشرة. ـ منظمة «القاعدة» لبلاد المغرب الاسلامي تحدثت عما وقع في الجزائر وأشارت الى ثلاث شاحنات، واعطت تفاصيل عن كمية ونوعية المتفجرات وعن الذين نفذوا العمليات. وهذا يدل بالفعل على أن «القاعدة» هي المسؤولة المباشرة عن تلك التفجيرات. أما في الحالة المغربية فإن المتحدث باسم «القاعدة» لم يعط أي تفاصيل دقيقة وقال كلاماً عاماً، ولذلك أؤكد وفق قناعتي أن التفجيرات هي ذات قوة تفجيرية ضعيفة خلافاً لما وقع في الجزائر، وأن الامر لم يصل الى حد التأطير والتنظيم من قبل «القاعدة». • لعل في الأمر رسالة أولى إلى السلطات المغربية؟ ـ هذا صحيح، وعلى السلطات المغربية أن تأخذ كل احتياطاتها تماماً، كما أنه ينبغي على مكونات الشعب المغربي من احزاب وجمعيات أخذ العبرة. أما القول بأن هذه الأمور قد وصلت الى حد يربك الأوضاع السياسية؟ فانا لا أعتقد ان ذلك صحيح.• لماذا وقعت هذه التفجيرات في المغرب، ومن هم أولئك الشبان الذين ينتحرون بتفجير أنفسهم؟ ـ لقد تفاعلت مجموعة من المعطيات لانتاج هذه الظاهرة الارهابية، أول هذه العوامل هو الفهم الخاطئ والسيء للدين، وهو الفهم الذي ينحو نحو الغلو والتطرف والتشنج، ثم هناك النفسيات المتأزمة والساخطة واليائسة بسبب الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة والمتدهورة. والذين فجروا أنفسهم جاؤوا من أحياء بائسة كحي سيدي مؤمن. ولو أخذت مثالاً على ذلك، الأخوان اللذان فجرا نفسيهما اخيراً (عمر ومحمد ماها) ستجد أن وضعهما الاجتماعي بائس. • البؤس ليس جديداً في المغرب، لماذا يستجيب الشبان الآن لنداءات القاعدة؟ ـ أنا قلت إن هناك عوامل، والأمر يبدو كأي حالة من الحالات الفيزيائية بحيث لو غاب أي عنصر من العناصر، فلا تحدث النتيجة. فإلى جانب الفهم الخاطئ للدين، والبؤس الاجتماعي، هناك عولمة ظاهرة الارهاب، وسيادة الخطاب الإرهابي وعلو صوته هنا وهناك، ثم هناك سياسات علمانية في المغرب متهورة ومرفوضة، وأخيراً هناك تعسف من قبل رجال الأمن ضد بعض المتهمين.• في الحديث عن هذه الأسباب وخصوصاً ما ذكرت من فهم خاطئ للدين، وعلمانية مفرطة، وأوضاع اجتماعية صعبة، ما هو دوركم كحزب ذي طابع اسلامي في لجم هذا التطرف وتحسين الأوضاع؟ ـ نحن لسنا في السلطة وإنما في المعارضة، واذا كنا مشاركين في مجلس النواب، فان لنا فيه سلطة القول لا سلطة الفعل، ثم ان الذي سار عليه الخطاب الرسمي في البلاد يفيد بأن على الاحزاب السياسة أن تقصر عملها على مستوى السياسة وألا شأن لها بالدين، ذلك ان الدين، وفق منطقة السلطة، مناط فقط بأمير المؤمنين (أي الملك)، وبالتالي فقد حيل بيننا وبين دورنا في أن نقوم بما ينبغي أن نقوم به. • كيف تم منعكم من ذلك؟ - لقد طلب من الحزب رسمياً وفي مناسبات متعددة بألا يمزج بين ما هو ديني وما هو سياسي، والخطاب الرسمي يقول إن على الأحزاب السياسية أن تمارس السياسة، أما الدين فلا شأن لها به لأن هناك أمير المؤمنين هو صاحب الاختصاص وصاحب الشأن. • حين وقعت التفجيرات الدموية عام 2004 ارتد جزء كبير من السلطة والمجتمع ضدكم حتى ولو أنكم توصفون بالمعتدلين، هل تخشون ان يكون في التفجيرات الحالية سبب لاستئناف محاولة تحجيم دوركم في السياسة والمجتمع ؟ ـ إن الذي حصل هو أنه بعد تفجيرات 16 مايو، تعرضنا لردة فعل سلبية من قبل بعض أجهزة الدولة، بحيث تم تحميل حزبنا جانب المسؤولية. ثم قامت احزاب سياسية منافسة لنا بالقول إننا مسؤولون أخلاقياً ودينياً وسياسياً عما حصل، وانطلق بعض الصحافيين والكتاب لنشر مقالات ضدنا، لكن تلك الأمور كلها لم تنطل على الشعب، بل إن هذا الشعب صار يشك حتى في مصدر تلك التفجيرات، وأعتقد أن السلطة تماماً كحزبنا وبقية مكونات المجتمع واعية تماماً الى الخطر المحدق بالبلاد وينبغي بالتالي وضع استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار مطالبنا ومطالب غيرنا الهادفة إلى كيفية مواجهة ظاهرة الارهاب في بلادنا.