/>أيتها الأم الرؤوم، كيف استقبلتِ فلذات كبدك وقد منعوك من رؤيتهم خوفاً عليكِ، أيها الطفل الذي ابتعد عن أمه ثم عاد فلم يجدها، أيها الكهل الذي عشت عمرك كله مع رفيقة الدرب العجوز حتى رأيتها بين الأنقاضِ ساكنةً، وللمرة الأولى لم تجب نداءك، أيها الأب الذي دفنت أبناءك وكنت قد ادخّرتهم لهذه المهمة، أيها الصديق الذي عرفت منك كل شيء، ما الذي دعاك لتكون في قلب الإعصار، ما عدت أعرف فيك شيئاً........، كيف تم لنا أن نغلّف تلك المآسي وهذه التعاسة بورق مليء بالأحرف والكلمات؛ كلماتٌ لا تستطيع الأجساد الساكنة أن تقرأها.
/>إنها قصة إنسان وُلِدَ ليحلم، لكنه عاش كابوس البطولة التي ليس لها ثمن سوى الأرواح، وُلِدَ ليكره ويغضب ويلعن، وُلِدَ ليكون ضمن قافلة المذبح دون أن يختار، هل تم استئذانه دون العالم ليكون محمولاً فوق الأعناق، رمزاً لأطماع الآخرين وثارات التاريخ، هل تمّ سؤاله عما يريد بعيداً عن تحشيد البسطاء المنفعلين من أجل سلطة غيرهم، وبعيداً عن الصراخ والوعيد، أم أنهم استكثروا عليه الأحلام واحتقروا فيه الأماني فلم يصدقوا حلمه ولم يسمعوا أمانيه، بل فتحوا له أبواب المنايا كلها، وكل باب كان يحمل اسماً وشعاراً.
/>يقول القوم تلك مصائر الأبطال وهذه أثمان النجاح، يصدحُ القوم بصوت واحد تحيا بلادي، بعضهم لا يعرف أين أرضي في الخريطة وبعضهم يحمل هوية مغتصبي وطني وهناك مَنْ يعشق الصراخ ويبحث لنفسه عن مكان في صورة الإنسان، إنهم جميعاً يرفعون أعلامي ويصرخون بعيداً عن آلامي ثم يعودون بعد أيام أو أسابيع عطشى للهتاف الذي لم أعد أسمعه، فأزيز الصواريخ يمُرُّ فوق مسامعي، والكلُ أصبح بديلاً عني، لقد أصدروا حكمهم بموتي؛ وانشغلوا عني بهتاف الصالحين حتى لا أخذلهم، وكيف أخذل مَنْ رسم لي الطريق وأهداني المواعظ وأشبعني بالحِكَم!، إنه واجب لا بد من الانتهاء منه، ومصير لازم النفاذ وستموت قصتي لتولد في زمن آخر وفي المكان نفسه، وسيُعاد المشهد من جديد وتعلو الأهازيج وتُكتبُ العِبارات، جملةٌ واحدةٌ لم أرَها في ذلك الكمّ الضخم من الأحرف المتعانقة وبكل اللغات: (أنا ما زلتُ إنساناً أبحثُ عن سعادتي؛ وأرتّب أحلامي)، تلك الجملة لم يُشكّلها مداد الحروف؛ ولا أنهر الكلمات فامتنعتْ عن الصرف وغابتْ عن المشهد، الرحمةُ لي في الأرض والسموات أمّا أنتم فلكم الأحلام والأماني.