25 يوماً على انفجارِ «طوفانِ الأقصى» ولبنان كأنه في الحرب من دون أن يكون فيها... نارٌ مشتعلةٌ على الحدود الجنوبية، دقُّ نفيرٍ لـ آتٍ يُخشى أن يكون أعظم وفق ما تعبّر عنه تهديدات إسرائيل لـ «حزب الله» من أي فتْحٍ للجبهة من خارج قواعد الاشتباك «الرخوة»، وتحذيراتٌ دوليةٌ متواليةٌ لبيروت التي تعدّ خطة طوارئ تحسُّباً لحربٍ لا كلمة فيها للحكومة، فيما اللبنانيون «يعضّون على جرح» الدولة «المكتومة القرار».
/>وغداً ينتظر لبنان والمنطقة أول إطلالةٍ للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، وكأنها سترسم مَعالمَ المرحلة المقبلة وكيفية تَعاطي الحزب مع اكتمالِ مقدّمات الاجتياح البري الشامل لغزة، هو الذي أعلنت واشنطن أن حضورَها العسكري في المتوسط هدفه «ردعه» والذي يَعتبر أن بانخراطه المدوْزَن حتى الساعة في المعركة حقق «بنك أهداف» ثميناً عبر تحويل الجنوب «جبهة مغناطيسية» جذبت فرق نخبة إسرائيلية خففت الضغط عن القطاع «المحكوم بالإعدام».
/>«جردة»
/>وفي حين وزّع «حزب الله»أمس«جردة»بـ 105عمليات استهدافٍ مباشر لمواقع العدو الصهيوني المنتشرة عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة (حتى 31 أكتوبر) تسببت بسقوط 120 جندياً بين قتيل وجريح وتدمير 9 دبابات ميركافا وناقلتيْ جند وآليتي هامر و 140 كاميرا و 33 راداراً و 69 منظومة اتصالات و 27 منظومة جمع حربي و مسيّرة و نزوح 65000 مستوطن بعد إخلاء 28 مستوطنة في شمال فلسطين، كانت بيروت تترقّب وصول مُساعِدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف ووزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو.
/>وسبق وصول ليف وليكورنو مواقف أميركية آخرها من وزارة الخارجية كشفت أن واشنطن وجّهت رسالة إلى حزب الله والأطراف الفاعلة مفادها أنه لا ينبغي لهم الدخول في الصراع، فيما قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن «إذا هاجم حزب الله إسرائيل من الشمال فسيكون ذلك تصعيداً سيدفع إسرائيل إلى الحرب على جبهتين ويجب محاسبة إيران على ما تقوم به»، وذلك بعدما كان كُشف أن وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا أبلغت الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي خلال زيارتها لبيروت بعد «طوفان الأقصى» أنَّ «ما منطقة لبنانية ستَخرج سالمة» بحال انجرّت البلاد إلى الحرب.
/>«الأنفاس المحبوسة»

/>ويعزّز وجود لبنان على الرادار الدولي من بوابة الجبهة الجنوبية المفتوحة على شتى الاحتمالات، كما «ربْط الأحزمة» عشية إطلالة السيّد نصر الله واقع «الأنفاس المحبوسة» في بلادٍ تَرَكَّزَ قياسُ المَخاطر التي باتت في عيْنها على الدمار العمراني والاقتصادي الذي قد يلحق بها إذا حلّ «كابوس الحرب»، في حين أن «دماراً» من نوع آخَر تسلّل «على السكت» إلى بيوتات أبنائها ونفسياتهم التي صارت مبرمَجة على وضعية الحرب وآثارها النفسية السبّاقة.
/>الكبار خائفون، الصغار مضطربون، العجزة يستذكرون وينتظرون، الشبان عصبيون... كلهم ما عادوا على طبيعتهم وكأنهم على فوهة بركان داخلي يُخْرِج حممه على دفعات في انتظار الانفجار الكبير أو الانهيار الأكبر.
/>في المنازل والشوارع وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية، التوتر سيد الموقف والأعصاب مشدودة إلى حد الانقطاع ولا صوت يعلو فوق صوت الحرب... الشعب اللبناني اليوم يمرّ بأسوأ مراحله فهو المتعاطف مع غزة وأهلها ويدمي قلبَه ما تعيشه من مآسٍ وما تتعرض له من مجازر، وهو الذي يعيش أجواء المعارك والقصف والنزوح يومياً في جنوبه ويتلقى تشظيات التهويل باشتداد الحرب ليجد نفسه على حافة الانهيار غير قادرٍ على التحكّم بما ينتظره.
/>علم النفس يحاول تفسير ما يَحدث وسرّ تَعَلُّق اللبنانيين المفرط بمتابعة يوميات الحرب في غزة والجنوب اللبناني وتأثيراتها التي انعكست حتى على سلوكياتهم التي تُرجمت انكفاءً عن ارتياد المطاعم والملاهي التي سجّلت «انعداماً دراماتيكياً للحركة السياحية فيها بنسبة 80 في المئة في منتصف الأسبوع» وفق ما أعلن نقيب أصحاب المطاعم طوني الرامي، وذلك بفعل قلق أبناء «بلاد الأرز» وتَعَرُّض القطاع السياحي لصدمة مع التحذيراتِ من غالبية الدول لرعاياها بضرورة مغادرة لبنان وعدم التوجه إليه.
/>زيادة في القلق والكوابيس
/>وتقول جوانا عودة الاختصاصية في علم النفس الحركي ومسؤولة ثانية في تطبيق Mindsome للصحة النفسية لـ«الراي» إنه «يمكن للأفراد أن يعانوا نوعاً من الصدمة عندما يشاهدون معاناة الآخَرين، حتى عندما لا يكونون مشاركين مباشرة في الحدث الصادم.
/>ويُشار في كثير من الأحيان إلى هذه الظاهرة بأنها(الصدمة الوكيلة). يحدث ذلك عندما يتعاطف الأفراد ويتّصلون عاطفياً بتجارب الأشخاص الذين يعيشون حَدَثاً صادماً، مثل الحرب، دون أن يكونوا حاضرين جسدياً في موقعها.
/>عندما يشاهد اللبنانيون اليوم أو يسمعون عما يعيشه أهل غزة من مآسٍ ومجازر وما يَسقط من ضحايا في الجنوب يتعاطفون بشكل طبيعي معهم و يؤدي هذا الارتباط العاطفي إلى ضيق نفسي واستعادة تلقائية للذكريات المتعلقة بالحرب التي عاشوها في السابق، وزيادة في القلق والكوابيس».
/>يمكن أن تؤدي الصدمة الوكيلة أيضاً إلى زيادة مستويات التنبه، واليقظة المفرطة، وصعوبة التركيز، ورد الفعل المبالغ فيه وهو ما نراه حالياً عند اللبنانيين.
/>وعلى الرغم من أن التأثير النفسي للصدمة الوكيلة ليس كما تأثير الصدمة المباشرة، إلا أنه يمكن أن يحمل انعكاسات نفسية مقلقة مثل الشعور المستمر بالقلق أو عدم الارتياح. ويمكن تشبيهها بأعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
/>وتشير عودة إلى أن التعرف على علامات الصدمة الوكيلة ومعالجتها بسرعة يمكن أن يساعد اللبنانيين في التعامل بفعالية أكبر مع استجابتهم العاطفية لمعاناة الآخرين.
/>في المقابل يعيش اللبنانيون صدمةً أصيلة نتيجة خوفهم الكبير من اتساع رقعة الحرب على أرضهم مع ما تحمله من تهديدات خطيرة، مستذكرين حرب يوليو 2006 كتجربة حسيّة لم تندمل جراحها بعد.
/>وتقول الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي غرايس كرم لـ «الراي» إن الحروب تشكل تهديداً كبيراً على السلام والأمان ما يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والقلق بين الأفراد. ويخشى اللبنانيون اليوم على سلامتهم وسلامة أفراد أسرهم، هم الذين اختبروا ويلات الحروب على مدى عقود طوال ولاتزال تراكماتها النفسية تتفاعل خصوصاً أن الصدمات تتوالى في حياتهم من دون هوادة لتأتي الحرب والتهويل بحرب أكبر لتضاف إلى الوضع المالي والمعيشي السيئ الذي يمرون به.
/>اضطرابات نفسية بالجملة
/>نتيجة هذه المخاوف والتوترات يعاني أبناء لبنان اليوم مجموعة اضطرابات يمكن معاينتها بوضوح سواء في حالتهم النفسية أو علاقتهم مع الآخَرين وتظهر داخل البيت وتمتدّ الى المحيط الخارجي. جسدياً تترافق المخاوف من الحرب وأخبار القصف والاعتداءات في الجنوب اللبناني كما مشاهدة صور العنف والقتل في غزة مع أعراض جسدية مثل الصداع والألم في المعدة وارتفاع ضغط الدم بسبب التوتر، إضافة إلى صعوبة واضطرابات في النوم، مثل الأرق والكوابيس بسبب التفكير في الحرب ومخاوفها.
/>أما على الصعيد النفسي فيشعر غالبية اللبنانيين اليوم بحالة من الحزن والاكتئاب بسبب الظروف الصعبة الضاغطة التي يعيشونها وتشتدّ حالة الاكتئاب هذه مع فقدان عائلات لأحباء لهم أو لأماكن إقامتهم التي اضطروا لتركها في بعض قرى الجنوب أو تدمّرت بفعل القصف الإسرائيلي أو حتى خسارتهم لحدائقهم ومحصولهم الزراعي.
/>ويمكن أن يؤدي الخوف من الحرب إلى تدهور العلاقات الاجتماعية والعاطفية «وقد بدأنا نلحظ» كما تقول كرم «أن الأشخاص من حولنا باتوا سريعي الغضب يثورون لأسباب بسيطة وقد ازداد عندهم منسوب العدائية وعدم الرضا ما انعكس سلباً على علاقتهم بمحيطهم. أو على العكس باتوا أكثر انعزالًا يفضّلون الانزواء في بيوتهم بدل الخروج وملاقاة الناس. حتى انه في بعض الحالات يمكن للشعور الشديد بالعجز واليأس أن يؤدي بالأشخاص الى الانتحار وهي ظاهرة صارت أكثر انتشاراً في لبنان أخيراً لا سيما عند الفئات الأقل قدرة على المواجهة».
/>الأطفال ضحايا الحروب ومخاوفها
/>ويبقى العنصر الأضعف وهم الأطفال الأكثر عرضة للتأثر بالحروب والنزاعات ويعانون بفعلها من اضطرابات نفسية وعاطفية.
/>وإذا لم يُوجه لهم الدعم والاهتمام اللازميْن، يمكنهم أن يواجهوا تأثيرات طويلة الأمد على صحتهم النفسية كما عانى أهلهم من قبلهم بعد الحروب والنزاعات التي مرّت على لبنان.
/>في هذا السياق تقول الاختصاصية جوانا عودة «إن الأهل اليوم في لبنان وفي خضم النزاع بين فلسطين وإسرائيل، يواجهون تحديات في تقديم الدعم والإرشاد لأطفالهم خلال حديثهم معهم عن الحرب، محاولين تحقيق توازن بين الصدق والحفاظ على براءة الأطفال.
/>ولكن قد ينعكس كل القلق الذي يعانيه الأهل وكذلك الحزن العميق الذي يشعرون به جراء ما يلحق بحياة الأسر البريئة من فقدان الأرواح والمنازل وكذلك فقدان الأمل بمستقبل سلمي، على حديثهم مع الأولاد الذي يمكن أن يصبح مشحوناً بالمخاوف والانفعالات.
/>ومن هنا ضرورة تنبُّههم إلى الأمر وترك المشاعر الخاصة جانباً واعتماد محادثة مبسطة تتفهم مخاوف الصغار وتساؤلاتهم حول موضوع كبير و خطير مثل الحرب وتتعامل بشكل خاص مع هذه المخاوف وتراعي عمرهم ونضجهم العاطفي».
/>قد يَطرح الأطفال أسئلة مثل «لماذا يقاتل الناس في الحروب؟»، «لماذا لا يمكنهم مجرد الحديث وحل مشاكلهم؟»، «هل سيكون هناك سلام يوماً ما؟» و «لماذا يتعرض الأشخاص الأبرياء للأذى في الحروب؟».
/>هذه الأسئلة تتطلب إجابات متأنية ومناسبة للعمر حيث تشير الأبحاث إلى أن المحادثات المبكّرة حول الحروب يمكن أن تؤدي إلى زيادة القلق وأعراض الصدمة لدى الأطفال، ما يؤثر على معتقداتهم وآرائهم في ما يتعلق بحل النزاعات.
/>وقد لا يكون الأطفال الأصغر سنًا تقول عودة قادرين على فهم مآسي الحرب أو تعقيداتها الجيوسياسة «ولذا من الضروري تزويدهم بشروح واضحة مناسبة لعمرهم لكنها لا تحتوي على تفاصيل قد تؤدي إلى المزيد من الأذى. بالنسبة للأطفال الأكبر سنًا يمكن شرح أهمية الالتزام بالقِيَم والأذى المحتمل الذي يمكن أن يسببه الذين يفتقرون إلى هذه القِيَم».
/>وتضيف: «من واجبنا كأهل الحفاظ على براءة الأطفال ما دام ذلك ممكنًا.
/>مشاركة الصور الصادمة أو التفاصيل المزعجة عن الحرب يمكن أن تكون لها تأثير صادم عميق على العقول الصغيرة.
/>لذا من المهم جداً مراقبة تعرُّضهم لمثل هذا المحتوى وحمايتهم من الصور المؤلمة. وبدل عرض الصور أو مقاطع الفيديو عن الحرب، يمكن اختيار الكتب والقصص الهادفة التي تركّز على القِيَم مثل اللطف والتعاطف والفهم كأدوات لحل النزاعات، سواء على الصعيدين الشخصي أو العام».
/>مشاهد العنف تفتك بأعصاب اللبنانيين
/>لكن إذا كانت حماية الأطفال واجب الأهل فمَن يحمي اللبنانيين من هذا الفيض من المشاعر المؤلمة التي تجتاحهم مع كل إشراقة شمس وهذه المَخاوف التي تتآكلهم من الداخل مع كل تهديد يتوعّدهم بتدمير بلادهم لتكون «غزة ثانية» بعدما باتوا أسرى الأخبار العاجلة والنقل المباشر؟ تؤكد الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي غرايس كرم «أن البقاء على اطلاع هو أمر حيوي لكن لتقليل التأثيرات السلبية، من المهم تقييم وضبط وقت مشاهدة الأخبار والتحكم في محتوى الأخبار المشاهَدة.
/>إذ على كل مواطن لبناني البحث عن مصادر أخبار موثوقة ومتوازنة لا تمجّد الحرب ولا تهوّل بها، والابتعاد عن المَشاهد التي تحتوي على عنف مفرط.
/>كما يمكن لكل مَن يشعر بأن الأمور قد تجاوزت قدرته على التحمل التحدث مع محترفي الصحة النفسية ولا سيما إذا شعروا بأن الأوضاع الخارجية بدأت تؤثر سلباَ على حالتهم النفسية وحياتهم اليومية».
/>وتؤكد كرم أهمية التواصل مع الأصدقاء والعائلة في هذه الظروف وعدم الانزواء بعيداً عن الناس بل مشاركة المخاوف والهواجس مع الآخَرين لتعزيز التضامن العاطفي الاجتماعي الذي يحتاجه أهل لبنان في هذه المرحلة في غياب أي تضامن آخَر.