جاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالهجرة، فتوالى الصحابة رضي الله عنهم مهاجرين إلى إخوانهم من الأنصار، تاركين وراءهم متاع الدنيا القليل والكثير، مؤثرين دينهم ومصاحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الله، بعد أن ضاق بهم العيش وتكالبت عليهم رؤوس المشركين، وليسوا من قلةٍ يومئذ ولم تأخذ قلوبهم حب الدنيا.
وقبيل هجرته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، اجتمع رؤوس قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على النبي وعلى هجرته ودعوته، واستثنوا واستبعدوا من ذلك الاجتماع بني هاشم أبناء عمومة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل اجتمع في ذلك اليوم ما يقرب من 100 رجل كلهم من قريش، حتى سمي ذلك اليوم بيوم الزحمة، وكان يقف خارج الدار رجل عليه ثياب نجد، فدعاه الداعي بقوله (هَلُم إلينا أيها الشيخ) فدخل الرجل وجلس إليهم وشاركهم الرأي، فأدلى كلٌ بدلوه إلى أن قال أبوجهل رأيه المعروف (نأخذ من كل قبيلةٍ شاباً فتياً كريماً حسيباً نسيباً من أوسطهم فيضربون محمداً بالسيف ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل) فصاح الشيخ النجدي قائلاً: هذا هو الرأي، الرأي ما قال الرجل.
الغريب بالأمر أن يجتمع أبناء القبيلة من أقصاها إلى أدناها للتشاور في أمر رجل منهم ويستثنون أقربهم رحماً له، ويُقَربون رجلاً لا يعرفون له نسباً فيهم ولا رحماً بينهم، غير أنه تطفل فوقف عند الدار منتظراً من يدعوه ليدخل بينهم، فكيف لهم أن يقبلوا غريباً عنهم في شأن قريبٍ منهم.
وعرف في ما بعد أن ذلك الشيخ كان إبليس حضر ليشركهم هلاكه، وإلا فإبليس الذي حلف بعزة الله «لأغوينّهم أجمعين» وطلب من الله عز وجل أن يجعله من المنظرين، يعلم أن الدعوة تامة بأمر الله عز وجل وأن أمر الله نافذ، وما جاء إبليس ليقضي على الدعوة النبوية، ولكن جاء ليزيّن لهم سوء أعمالهم ويغويهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
فتمت كلمة الله عز وجل، وهاجر حبيبه صلى الله عليه وسلم مع صاحبه، واستنارت المدينة بقدومه وطابت بطيبه وتمت دعوته وبلّغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة وكشف الغمة.
فلعظيم أثر الهجرة النبوية حضر إبليس بنفسه وشخصه واعتداده برأيه مشاركاً ومعارضاً ومؤيداً ومدعواً للشورى، ولو كان صاحب رأيٍ سديد وحكمة لفاد به نفسه، ونحن لا نبلغ من دعوة النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، عشر معشار جهده وفضله، ولكن المسلم فينا إذا هَمَّ بعملٍ يخدم به دعوة الله التامة التي نحن في حاجةٍ لخدمتها وهي بنا أو من دوننا قائمة تامة بأمر الله عز وجل، إلّا تسلط عليه من أعوان إبليس وجنده وأمثال من دعاه إلى دار الندوة ليحبطوا عمله ويثنوه عن عزيمته، فلعله اختبار صبرٍ وصدق عزيمةٍ ووجهةٍ وإيثار الباقي على الفاني، وما سار أحد في دعوةٍ إلى الله عز وجل إلا وجد المصاعب والمتاعب في طريقه إلى أن يظهره الله تعالى، ولو كان العمل يسيراً فبصدق النية والمقصد يبارك الله فيه «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى».
فاصبر هداك الله صبر الأتقياء
الأبرياء الثابتين لدى الغِيَر
وإن وجدت من المصاعب والمتاعب ما يثنيك فاعلم أنك على النهج القويم والصراط المستقيم وأنك تسير على خطى الحبيب وأن كل ما يواجهك من أذىً وبلاء ليس إلا قطرةً في بحر ما وجد حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، لإبلاغ أمر الله عز وجل ودينه القويم لنا، ولتكن سيرته عزاءً لك وجابراً لمصابك ومقوياً لعزيمتك، ففي كل زمانٍ هناك من يقول لأعوان إبليس «هلم إلينا أيها الشيخ».
فكن في زمانك هذا داعياً بخلقك وعملك وما يسره الله عز وجل لك من إمكاناتٍ ومواهب وميول تخدم بها رسالة الله عز وجل ودين مصطفاه، ولا يثنيك عن غايتك ومقصدك إبليس وأعوانه وأمثال من دعاه، فهم كثر، واجعل الله غايتك ومقصودك ووجهتك ومعينك وتحلى بالصبر والثبات.