يدرك وزير المالية فهد الجارالله جيداً أنه كان ينتظره بعد أن أدّى اليمين الدستورية لتوزيره أمس حزمة من الملفات والقضايا العاجلة والمترابطة، والتي لا تقل إحداها عن الأخرى سخونة سياسية أو استحقاقاً مالياً.
ولعل ما يزيد تعقيدات المشهد أمام الجارالله أنه لا يمكنه تجاهل حقيقة أن كصانع للسياسة المالية فقد أهم أذرعه للإيرادات بعد النفط وهو تبعية الهيئة العامة للاستثمار والمؤسسة العامة للتأمينات إلى وزير «المالية»، ما يجعله أقرب للمحاسب المسؤول عن ترتيب البيانات المالية وليس صناعتها بشكل كامل.
وبعد تخطيه لهذا العتبة التي لم يستطع وزير المالية السابق مناف الهاجري تخطيها حيث استقال من الحكومة بسبب هذا الإجراء، سيكون من أبرز الملفات الملحة التي سيجدها الوزير الجارالله على واجهة مكتبه بعنوان «حريق الموازنة العامة» والمقصود هنا العجز المقدر عن السنة المالية الحالية بنحو 6.8 مليار دينار، ما يعني عودة الخزينة العامة في عهده مجدداً إلى زمن العجوزات المعطلة لمحركات التنمية الحقيقية، ما يستدعي من الوزير الشاب البحث وسريعاً عن حلول قصيرة الأجل مع أخرى متوسطة وطويلة الأجل على أن يفلح في إبعادها عن النقاشات المالية المسيسة.
قراءة مالية
من حيث المبدأ، يتعيّن أولاً تقديم قراءة سريعة للبيانات المالية العامة حيث يمكن ملاحظة أن الإيرادات النفطية في ميزانية السنة المالية الحالية، محسوبة على أساس تقديرات محافظة بسعر 70 دولاراً في المتوسط لبرميل النفط، ما يشكل 88 في المئة من الدخل المتوقع. ومحاسبياً، تكون هذه الإيرادات ليست كافية لتغطية حتى النفقات المقدّرة بـ 67.8 مليار دولار على رواتب القطاع العام والدعم الحكومي التي نمت 19 في المئة على أساس سنوي.
وبمضي شهر أغسطس الماضي يكون قد انتهى الشهر الخامس من السنة المالية الحالية 2023/ 2024، حيث بلغ معدل سعر برميل النفط لما مضى من السنة المالية الحالية نحو 82 دولاراً، وبلغ معدل سعر برميل النفط الكويتي لشهر أغسطس نحو 88.7 دولار، وهو أعلى بنحو 18.7 دولار للبرميل أي بنحو 26.7 في المئة عن السعر الافتراضي الجديد المقدر في الموازنة الحالية والبالغ 70 دولاراً للبرميل.
أكثر جاهزية
وأمام انعكاسات هذه الأرقام من الناحية المالية يكون من الموضوعية الإشارة إلى أن عجز السنة المالية الحالية وإطفاءه ليس بالمهمة السهلة سواء على الجارالله أو أي وزير مالية، خصوصاً لو حدثت تغيرات سلبية في اتجاهات أسعار النفط عالمياً، وما يزيد التحدي أكثر أنه على الوزير الجديد أن يكون أكثر جاهزية في موقعة «المالية» الجديدة وأن يستعد خلالها للمحاربة بسيفين في وقت واحد.
وكإجراء مستحق، سيكون على الجارالله أن يضع في يده الأولى سيف العمل على تنويع مصادر الدخل العام وزيادة الإيرادات العامة مع مراعاة تفادي الوقوع في فخ المحرمات الشعبية، وفي مقدمها فرض ضرائب جديدة على المواطنين، على المدى المتوسط إلى الطويل.
أما في اليد الثانية فسيكون عليه التقيد بسيف إطفاء العجز المالي، والعمل على زيادة منسوب السيولة في صندوق الاحتياطي العام، وخلال الهامش الصغير المتوافر بين قبضتي الجارالله للسيفين سيتدافع إلى ذهنه السؤال من أين سيمول الإنفاق الجاري والاستثماري للدولة دون التعرض لأي عجوزات مالية في وقت رصد في الميزانية ارتفاع النفقات الجارية لعامي 2023 و2024 رغم الانخفاض الحاد في الإيرادات النفطية.
سيناريو المعالجة
بالطبع سيبرز للمعالجة السريعة أمام الوزير الخيار الحكومي الكلاسيكي، وهو إقرار قانون الدين العام، لكن ودون التطرق لوجاهة استحقاق إقرار القانون، هناك معضلة متجذرة تعوق تقدم سير هذا الملف للإقرار وذلك منذ انتهاء صلاحية قانونه في 2017 والتي تتمثل في المعارضة النيابية الواسعة لهذا المشروع.
فرغم تقاطع برنامج عمل الحكومة الحالية وسابقاتها على أهمية هذا الإجراء والتأكيد على أن هذا السلوك التمويلي لم يعد يشكل رفاهية فكرية للدولة بل استحقاقا مالياً يرقى لإدراجه ضمن فقه أولويات عمل الحكومة بالفترة المقبلة يتزايد الرفض النيابي لهذا المسار أكثر فأكثر.
لكن الإشكالية تكمن في أنه يقابل التحرك الحكومي الداعم لاتجاه إقرار «الدين العام» من الجهة الأخرى رفض نيابي معاكس لهذه الخطوة وبمصدات تلقى صداها في الشارع، وبين الاتجاهين يخشى أن يظل الجارالله عالقاً في شباك السياسة، ما لم يسارع بتقديم دراسة فنية ومالية معتبرة على أن تكون مقنعة قياساً بما قدمه وزراء المالية السابقون من مبررات، خصوصاً في ما يتعلق بضمانات صرف هذه الأموال وتقديم خطة لاستثمارها بعيداً عن دفع الرواتب والدعوم، مع تقديم خطة أخرى تتعلق بالسداد على أن تضمن الانتظام دون تحميل الخزينة العامة مستقبلاً أي ضغوط مالية إضافية.
توافق نيابي
بالطبع يدرك الجارالله أن انتظاره على مائدة المفاوضات مع النواب لتغيير المسار قد يطول كثيراً، وقد لا تصل الحكومة إلى توافق بخصوص بعض المعالجات المالية الرئيسية مع مجلس الأمة والتي تضمن لها تمرير قانونها لـ»الدين العام»، ما يحفزه للتعجيل بالسيناريو الثاني، وهو معالجة الاختلالات الهيكلية التي تواجهها الميزانية العامة، بزيادة الإيرادات غير النفطية لكن ذلك يتطلب أيضاً زيادة الإنفاق الاستثماري، أخذاً بالاعتبار أن نحو 9 في المئة فقط من الميزانية الحالية مخصصة للإنفاق الرأسمالي في وقت تتنامى فيه الحاجة الملموسة إلى تحديث البنية التحتية وغيرها من المشاريع الداعمة لتعزيز الإيرادات غير النفطية.
أما أمّ المشاكل التي ستواجه الجارالله فتتعلق بقدرته على المواءمة بين العجز المالي الكبير المقدر، واستحقاق زيادة الصرف الرأسمالي مع ضعف القدرة على الاعتماد على خيار فرض ضرائب جديدة، وانتقلت فيه تبيعة الهيئة العامة للاستثمار والمؤسسة العامة للتأمينات منه لوزير الدولة للشؤون الاقتصادية والاستثمار.
حلحلة الوضع
وهنا تبرز حقيقة أن حلحلة الوضع المالي المحلي أمام الجارلله ليست بالعملية السهلة بل تحتاج إلى مشرط متعدد الرؤوس، لتشمل معالجات مالية وفنية واقتصادية وسياسية وشعبية، ما يزيد وجاهة خطط الحكومة لإنشاء صندوق ثروة سيادي محلي جديد «سيادة» لتنفيذ تلك المشاريع إما من قبل الحكومة منفردة وإما بالشراكة مع القطاع الخاص بإشراف صندوق الثروة السيادي الحالي المتمثل وهو الصندوق الذي يعول عليه كثيراً في زيادة الإيرادات غير النفطية. وبغض النظر عن تبعية هذا الصندوق إلا أنه سيساعد في زيادة الإيرادات العامة غير النفطية.
بالطبع هناك ملف لا يقلّ وزناً عمّا سبق يتعلق بتسكين الشواغر القيادية في «المالية» والجهات التابعة للوزارة القادرة على تنفيذ أي معالجات مقترحة في هذا الخصوص.