(من رحم المآسي يُولد الأملُ)

لقد سطّر أبناء الكويت البررة مواقف مشرّفة في أشد الظروف آلاماً عندما استبيحت أراضيها واستشهد أبناؤها دفاعاً وحباً للوطن العزيز، وبرز من أبنائها أبطال نفتخر بهم، ثبتوا وعملوا ودافعوا عن الوطن دون أن يتباهوا بما فعلوا، ولم يفخروا بما قدّموا، بل أنكروا ذواتهم وكتموا أعمالهم، وابتغوا وجه ربهم الذي لا يُضيع أجرَ مَن أحسن عملاً، والذي يعلم السرّ والنَّجوى.

«فلا تزكوا أنفسَكم هو أعلمُ بمن اتقى»

إنّ إنكار الذات صفة من أخلاق الذين سَمَت هِممهم وعَلت نفوسهم، فصاروا من الأبطال الصادقين في هذه الدنيا الفانية.

وهناك كوكبة من هؤلاء الأبطال الذين أخلصوا للوطن ومواطنيهم خلال أشد الأزمات التي مرّت بها الكويت أثناء الغزو الغاشم، وحقاً هم أبطال لم ينشدوا الشهرة ولا التباهي ولا المفاخرة، عملوا بإخلاص وتفانٍ ورفضوا اللقاءات والمقابلات ولم يتم ذكر ونشر ما قاموا به من أعمال أثناء احتلال الوطن.

يقال إن تزكية المرء لنفسه أو لأقاربه هو أمر مستهجن، إلا إذا كان ذلك للعظة والموعظة والعِبرة فهو أمر مستحب ومطلوب لأن الإنسان يحتاج إلى الأُسوة والقدوة.

قال تعالى «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ» لأجل الفائدة والتعليم، لكونها من المواقف والمشاهد الحقيقية التي ينقلها صاحب التجربة للناس للتذكرة.

«وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»

والآن وبعد مرور 33 عاماً على غزو الكويت سنذكر بعض المواقف المغيبة والمشرفة لتكون لأجيالنا القادمة نبراساً في حب الأوطان والإيمان والوطنية والعطاء.

المشهد الأول

المرحوم / محمد صالح بهبهاني

مواطن كويتي يعمل بالأعمال الحرة، ففي اليوم الثاني من الغزو الغاشم

3 /8 /1990 قبل المغرب وصلت جحافل الغزاة إلى منزله في منطقة الشعب، وتمت محاصرة المنزل حيث كان المرحوم/ محمد صالح وأبناؤه وأبناء إخوته متواجدين في الدار، وكان هدف الغزاة اقتياد أخيه المرحوم مراد بهبهاني أسيراً، وطلبوا تسليمه؟ فقال لهم محمد صالح، إنه خارج البلاد.

فسألوه من أنت؟

رد، أنا أخوه، فاقتادوه أسيراً دون ذنب بدلاً عن أخيه وانتقلوا به إلى البصرة وهناك عرض على المقبور (حسين كامل) ومن ثم، تم نقله إلى بغداد وايداعه في السجن الانفرادي، وكانت زنزانة صغيرة طولها متر ونصف المتر، وعرضها متر، من دون نافذة ولم يكن يعرف ليله من نهاره.

وقد تعمدوا فعل ذلك في محاولة لتعذيبه نفسياً وبقي على هذا الحال لمدة خمسة أشهر ونصف الشهر!

كانوا في قمة الإجرام، وكل ليلة يتم تزويده بـ3 أوعية وعاء ماء، ووعاء خبز الشعير، مع سطل لقضاء الحاجة!

فكان أمامه خياران لا ثالث لهما، إما أن يستسلم للضغوط النفسية والتفكير السلبي والخوف فينهار(!) أو يلجأ إلى الله عز وجل ليستمد منه القوة والصبر والعزيمة، واختار اللجوء إلى المولى عز وجل فلم يبال بالموت ولا بما يخطط له هؤلاء الطغاة، ولم يخضع للضغوطات النفسية، وبسبب صغر مساحة الغرفة المحبوس فيها بحيث لم يتمكن من النوم ممدداً قام بممارسة الرياضة (التمارين السويدية) تعويضاً عن الضعف والهوان.

وبعد مرور هذه الفترة الطويلة تم نقله إلى سجن آخر مع ثلة من الأسرى الكويتيين، حتى أنعم الله عليه بالفرَج عندما قامت بعثة الصليب الأحمر بزيارة مفاجئة للمعتقل، وتم تسجيله أسيراً في قائمة الأسرى دولياً، خلال بدء عمليات الحرب الجوية، وعند تحرير الكويت من براثن المعتدي تم نقله بواسطة الصليب الأحمر إلى المملكة العربية السعودية ومنها العودة إلى الوطن بتاريخ 27 /3 /1991.

الرسالة من هذه القصة

فمن توكل على الله فهو حسبه وإن كان في قبضة أعتى المجرمين فسوف ينقذه الله إن كان مكتوباً له ذلك.

الرسالة الثانية، إيجاد البدائل تعويضاً عن العيش تحت الضغوط النفسية الهالكة ولله الحمد كان ذلك هو طريق الحياة بعزة وكرامة.

المشهد الثاني

حبيب محمد بهبهاني (شفاه الله)

صاحب مؤسسة تجارية ووكيل أدوية لشركات عالمية، خلال فترة الغزو الغاشم غادر جميع العاملين في مؤسسته عائدين إلى أوطانهم خوفاً على أرواحهم وذلك أمر مُسلّم به، فأجبرته الظروف على متابعة أمور الشركة مع ابن خاله (أبو محمد).

وصدرت التعليمات من وزارة الصحة العراقية إلى المستشفيات والمخازن ووكلاء الأدوية وأصحاب الصيدليات بأن يتم تسليم جميع الأدوية والمضادات الحيوية إلى سلطات النظام الغازي ليتم إرسالها إلى العراق ومن يخالف ذلك يُنفذ فيه حكم الإعدام!

وتم الاتفاق واتخاذ القرار بأن يتم نقل الأدوية إلى المنزل بعيداً عن أعين جلاوزة النظام بأسرع وقت دون تردد أو خوف من تبعات مخالفة تعليمات الغزاة.

وعلى الفور تم تجهيز سيارة النقل الخاصة بالأدوية وتم شحن كمية منها ونقلها إلى المنزل على دفعات عدة في خطوة فيها مخاطرة كبيرة إن اكتشفت خلال المرور على نقاط التفتيش، وقد تم ذلك بفضل الله بنجاح، ولكن في الشحنة الأخيرة، أوقف من كان على نقطة تفتيش السيارة، وشعر من فيها بأنهم وقعوا لا محالة في أيدي الطغاة، ولكن بفضل الله سألهم أحد جنود الغزاة، ماذا لديكم؟ طعام! سجائر!

فألهم الله (ابومحمد) وأجاب دون تردد «معي أدوية»!

استهجن الجندي «الصدامي» من تلك الإجابة، وقال وباللهجة العراقية «تتشاقا معانا! روح يالله»!

فتم نقل الأدوية إلى المنزل بسلام ومن ثم تم تزويد المستشفيات والاطباء لاحقاً بها ليتم علاج المرضى المحتاجين إليها، وكذلك لعلاج المقاومين المصابين في العيادات السرية.

والجدير بالذكر، أنه كان له دور كبير في مساعدة العوائل التي كان في كنفهم أطفال رضّع، حيث زوّدهم بالحليب البودرة والمكملات الغذائية الخاصة بالاطفال، بالإضافة إلى الحفاضات والأدوية المتنوعة، وشارك بتقديم الأموال للمواطنين خلال فترة الغزو.

الرسالة من هذه القصة

العمل الوطني ليس شعارات وإنما أفعال وإخلاص ووفاء وتضحية وجهاد في سبيل الله مصداقاً لقوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

ولم يكترث بالمخاطر المحدقة به من جراء هذا العمل ولم يعره اهتماماً، بل صرف أمواله الخاصة وبضاعته على المجتمع الذي كان في أمس الحاجة إلى من يساعده ويمد له العون لاجتياز تلك الظروف الصعبة في ذلك الوقت... فالكويت تستحق منا الكثير.

المشهد الثالث

عقيد م / شابور عبدالحسين بهبهاني

شخصية هذا المشهد تتميّز بخصال طيّبة، منها أن لديه معرفةً بلهجات كل قبيلة من قبائل الكويت، وذلك بسبب احتكاكه وعيشه معهم، وهذه المعرفة لها علاقة بعمله الذي يتطلب مقابلة المتطوعين الذين يرغبون بالالتحاق في صفوف القوات المسلحة، حيث كانت هناك أيام مخصّصة لكل قبيلة على حدة، فكان بالدراية التي اكتسبها قد استفاد منها بحكم عمله أن يكتشف الذين يدّعون انتماءهم لقبيلة أخرى غير قبيلتهم.

وكذلك هو شاعر ويتميّز بالوطنية محباً لوظيفته، يلتحق بعمله مبكراً ويغادر متأخراً بعد الدوام الرسمي، ولا يقبل أي انحرافات أو أخطاء ولو كانت صغيرة، فعلى سبيل المثال كان يتفقد حتى أنوار الإضاءة، ففي موقع عمله في رئاسة الأركان وبعد انتهاء الدوام كان يدخل مكاتب الضباط والأفراد ويتفقد الأضواء فإن كانت الإضاءة مفتوحة يقوم بإطفائها، ثم يقوم بإبلاغهم بهذه المخالفة التي ارتكبوها، وأنها تعد هدراً لمقدرات الدولة، وأن المحافظة عليها واجب على الجميع وينبه على تفاديها مستقبلاً، فهو في حياته كان ملتزماً عصامياً التحق بالقوات المسلحة منذ الستينات جندياً حتى ترقى إلى رتبة عقيد متقاعد.

بالرغم من تقاعده قبل الغزو الغاشم سنة 1986، إلا أنه كان لا يزال يحمل في طيات نفسه الروح العسكرية، فعندما استبيحت دولة الكويت من الغزاة العراقيين ارتدى بدلته العسكرية والتحق بوحدته العسكرية في الجيوان من تلقاء نفسه ملبياً نداء الوطن للدفاع عنه، وكان مع زملائه يقاومون المحتل إلا أنه لعدم وجود التكافؤ بين القوتين، أسلحة فردية من جانبهم، مقابل جيش نظامي غازي مزود بالدبابات والمدافع والطائرات، فكان أن تم اتخاذ قرار الانسحاب إلى منطقة كيفان سيراً على الأقدام، وبعد مرور أسبوعين لجأ إلى منزل والده بالدعية ومن ثم انتقل إلى منطقة السالمية ثم بعدها إلى منطقة الرميثية لملاحقته من قبل الغزاة وتعرّض منزله في سلوى وسياراته إلى السرقة من جلاوزة الغزاة.

وبعد التحرير مباشرة التحق بالقوات المسلحة وتم تكليفه بحماية المستشفى العسكري، وبعد مرور أيام تم تكليفه حماية مستشفى مبارك، وشكل فرقة أمنية تتكون من الشباب الكويتي الصامدين المتطوعين لحماية محيط مستشفى مبارك في الجابرية والعاملين به من الهجمات التي يتعرّض لها المستشفى من فلول الغزاة واستمر لأشهر عدة بهذه المهمة، ثم أبلغه رئيس الاركان آنذاك الشيخ جابر الخالد الصباح (شفاه الله بأن يتم تسليم حماية المستشفى إلى ضباط وزارة الداخلية ليقوموا بهذا الدور ويرجع الجيش إلى ثكناته العسكرية، وطلب منه العودة مجدداً إلى الخدمة العسكرية، إلا أنه شكر الشيخ على الثقة الغالية، وأضاف، «أسأل المولى عز وجل أن أكون قد أديت الواجب على أكمل وجه في ظل هذه الظروف الاستثنائية، وأنا أساساً متقاعد ولا أنوي العودة إلى العمل والبركة في الشباب العاملين وفي أي وقت احتاجني الوطن سأكون على أهبة الاستعداد، وأول الملتحقين في الخدمة، وكل الشكر لك يا سيدي على هذه الثقة التي اعتبرها وساماً على صدري».

وكان الوفاء من الشيخ جابر الخالد تواجده مع أسرة المرحوم لتلقي العزاء معهم في وفاته.

ملاحظة

لم يسجل المرحوم طلباً للتعويض عن خسائره المادية والأضرار المعنوية الذي لحقت به، وعندما طلب منه تقديم الطلب، قال: (الحمد لله رجعت الكويت حرة وحفظنا الرحمن من كل سوء فهذا هو التعويض الذي يرضيني، قمة الرضا والتسليم لله عز وجل لقضائه وقدره).

الرسالة من هذه القصة

الوطنية لا ترتبط بكون الإنسان مرتبطاً بوظيفة ما بل هي متعلقة بالوطن والولاء له، والوطنية هي حب الوطن وصون مصالحه في السراء والضراء، وتصل لأعلى المراتب بالإيثار والتضحية بالحياة الأسرية والاستقرار والأرواح من أجل الأوطان.

فالإنسان جُبل على حبّ وطنه، يحبّه، ويُواليه، وينتمي إليه...

والجدير بالذكر، أنّ الوطنية ليست كلمات نرددها ولا شعارات نعلقها وإنما هي أفعال تطبق وتثمر.

ونستذكر شهداءنا الأبرار... فاللهم ارحم شهداء الوطن الأوفياء، وارفع درجاتهم في عليين مع الأنبياء، واجز أمهاتهم وآباءهم وزوجاتهم وأهليهم جميعاً جزاء الصابرين يا سميع الدعاء.

حب الوطن ليس ادعاء... حب الوطن عمل ووفاء

اللهمّ احفظ الكويت آمنة مطمئنة والحمد لله رب العالمين.