انتقل لبنان إلى مرحلةٍ جديدة من الأزمة التي يعيشها سياسياً واقتصادياً، بعدما شارف على مقاربةِ أولى التحديات الناجمة عن الشغور الرئاسي أي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان ابتداء من الأول من أغسطس المقبل، ناهيك عن تداعيات لقاء اللجنة الخماسية في الدوحة.
فلقاء الدوحة حَسَمَ بعد نحو تسعة أشهر من الشغور الرئاسي، اتجاه الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا وقطر ومصر، في ما خص ملف رئاسة الجمهورية، إذ حدد من دون التباسٍ أن المسارَ الذي يُفترض سلوكه، يختلف تماماً عن الذي كانت تعتمده فرنسا تجاه مرشح «حزب الله» زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية.
لكنه وَضَعَ كذلك خريطة طريق للرئاسة لا تختلف عن الرؤية التي كانت تنادي بها الدول العربية حتى قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في 2016.
وبعد اجتماع الدوحة، صار لبنان أمام مرحلةِ انتظارٍ جديدة. فرغم أن اللقاء الخماسي أعطى شرعيةً لِما يطرحه خصوم «حزب الله» لجهة تحديد الأولويات التي يفترض بلبنان التعامل معها، إلا أن اللقاء لم يحدد كيفية الوصول إليها.
فصندوق النقد الدولي مثلاً، سبق أن رَسَمَ للبنان آليةَ الخروج من الأزمة الاقتصادية والنقدية وتطبيق خطة التعافي التي أَسْقَطَها مجلس النواب، لكن لبنان لم ينفّذ أياً منها، والصندوق لا يملك ما قد يشكل أداة تنفيذية لوضع تصوُّره موضع التنفيذ.
وهكذا هي حال لبنان اليوم مع مقررات اللجنة الخماسية التي يَمضي الحزب في انتقادها منذ صدورها ويرى فيها إملاءات أميركية على لبنان. فعلى عكس المرات الكثيرة التي كانت الدول العربية تدخل بقوة على خط الأزمة، فان الحراك العربي يتمحور هذه المرة حول مبادراتٍ منفصلة وإن تحت سقف الثوابت التي أرستْها «مجموعة الخمس»، الاثنين الماضي.
ولذا سينتظر لبنان ما تقوم به هذه الدول إفرادياً، كالتحرك القطري تجاه القيادات اللبنانية، ومن ثم ما ستفسر عنه قراءة فرنسا، بعد انضباطها تحت سقف اللجنة الخماسية مع انتهاء مبادرتها - سواء بالنسبة إلى تسوية فرنجية أو الدعوة الى الحوار - وهو ما يفترض أن يتبلور خلال زيارة موفدها جان - إيف لودريان المرتقبة إلى بيروت هذا الأسبوع، كي يبنى على الشيء مقتضاه.
على أن أشد المرحّبين ببيان اللجنة الخماسية، لا يُظْهِرون تفاؤلاً بإمكان أن يُترجم نتائج عملانية في وقت قريب، خصوصاً أن الدول الخمس، بعدما انضمّت فرنسا الى «الموجة نفسها» لشركائها، باتت تقف على ضفة واحدة من الأزمة واحتمالات وضع تَصَوُّر ملموس لها، في حين أن الحوار السعودي - الايراني لم يشمل لبنان بعد وقد لا يشمله، وأن طهران لم تقل كلمتها بعد في كل ما جرى.
وهذا يضع لبنان أمام أسابيع إن لم يكن أشهر من الانتظار للانتقال الى مرحلة أكثر عملية في ترجمة أي تسوية خارجية لمعالجة أزمته.
وفي هذا الوقت الضائع يواجه لبنان أولى تحدياته المالية المباشرة. فهو حتى الآن تمكّن من تَجاوُز الشغور الرئاسي باستمرار عمل الحكومة المستقيلة رغم التباينات حول دستورية اجتماعاتها، وتخطيها البنود المُلحّة التي يفترض بحكومة تصريف الأعمال حصْر حدود عملها بها.
إلا أن انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 31 يوليو الجاري، يضع الحكومة والقوى السياسية على محك مواقفها من الحاكم وسياسته المالية - النقدية.
فالحكومة تصرفت كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، فكان ملف حاكمية المصرف المركزي، كرة نار لا يريد أي طرف تلقُّفها.
وبعد صدور موقف حزب الله الرافض لتعيين حكومة تصريف الأعمال، حاكماً جديداً، وفورة نواب الحاكم الأربعة والانتقادات التي وُجهت إليهم بأنهم يتصرّفون وكأن لا علاقة لهم بسياسات سلامة و«ينفضون يدهم» منها، والاقتراحات التي قدموها الى لجنة الإدارة والعدل ولم يؤخذ بها، وتهديدهم بالاستقالة، بدأ الكلام عن الاحتمالات الموضوعة على الطاولة عبر حملة إعلامية سياسية تروّج لبقاء الحاكم في منصبه.
هذا الكلام قيل سابقاً، لكنه لُجم تحت وطأة ملاحقة سلامة أوروبياً، وعدم حماسة أي طرف سياسي علانية لتبني التمديد له، لِما يمكن أن يُواجه به من رد فعل رافض.
علماً أن «التيار الوطني الحر» الممثّل في الحكومة ولكن يقاطع وزراؤه جلساتها، يشنّ حملة على سلامة ويرفض حكماً أي تمديد له أو تكليفه بالبقاء في مركزه من ضمن صيغة تسيير المرفق العام على أن تشمله مع نوابه الأربعة بعد تقديم استقالاتهم، رغم وجود انطباعٍ بأن من المستبعد أن يوافق «حزب الله» الذي يخوض حواراً شاقاً مع التيار على التمديد لسلامة تحت وطأة انكسار العلاقة بينهما مجدداً.
إلا أن السيناريوهات أخذتْ تكثر حول احتمالات ما بعد 31 يوليو في وقتٍ تلوح في الأفق احتمالات انفلات السوق المالية وانهيار أكثر لليرة اللبنانية، الأمر الذي بدأ في شكل عنيف الويك إند الماضي وطفيف في اليومين الماضيين، ووُضع في سياق استغلال الواقع النقدي وتموجاته اللاهبة لفرض إيقاع التمديد أو تعيين حاكم مصرف جديد مع إعطاء الأولوية للتمديد، مع الكلام عن سعرٍ مرتقب يقارب 250 ألف ليرة، للدولار بعد مغادرة الحاكم والضبابية حول منصة «صيرفة» في ما بدا تهويلاً واضحاً عن سودوية ما يُعد اذا لم يُمدّد لسلامة.
ومن هنا، فإن الأسبوع الطالع حاسم من الجهة المالية والاقتصادية، ولم يتبق أمام لبنان سوى بضعة أيام لمواجهةِ ما يُراد أن يكون خياراً من اثنين: التمديد أو الانهيار المالي في ظل حملة تهويل على وضع الليرة بعد سلامة.
أما بالنسبة الى تعيين حاكم جديد، فإن المهلة بدأت تضيق والأسماء المتداوَلة لم يتم الإجماع عليها بعد، عدا عن الإشكالات الدستورية التي ترافق حق الحكومة بالتعيين في كنف الشغور الرئاسي، وصولاً إلى الفيتو الذي يرفعه «حزب الله» بوجه مثل هذا التعيين لاعتبارات متعددة البُعد تجمْع بين عدم استفزاز المكوّن المسيحي وفي الوقت نفسه توجيه «رسالة» إليه حول ما يرتبّه المضي في معاندةِ انتخاب فرنجية من مخاطر على مواقع حساسة مالية وعسكرية وغيرها «ستفلت» من أيدي المسيحيين ولو بالوكالة مع ما لهذا الأمر من وقع معنوي كاسِر لـ «محرّمات» ترسّخت ولو عُرفياً على مدى عقود.
يستمرّ «حزب الله» في الاعتراض المُمَنْهَج على خلاصات اجتماع «مجموعة الخمس» حول لبنان في الدوحة، والذي رَسَمَ مساراً جديداً لكيفية الخروج من المأزق الرئاسي على قاعدةٍ ترتكز على «لبننةٍ» تراعي قواعد الدستور والانتخاب في البرلمان بعيداً من حوارات مسبقة قد تكون «على رأس الطائف» وتوازناته ومع تلويح غير مسبوق بعقوبات على مَن يمعنون في تعطيل الانتخابات الرئاسية.
وفي هذا الإطار، ركّز قادة «حزب الله» ونواب فيه هجومهم على خصومهم في الداخل، حيث توجّه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم «لدعاة الفوضى والفراغ في لبنان»، بالقول: «أولئك الذين يريدون تجريد لبنان من قوة مقاومته أمام العدو، أنتم لستم مؤتمَنين على لبنان ولا على شعب لبنان، لأنكم تحملون أفكاراً لا تخدم إلا الصهاينة».
وأشار عضو المجلس المركزي الشيخ نبيل قاووق إلى أنه «عندما فشلوا واكتشفوا خطأ حساباتهم عملوا على تعويض فشلهم وأخطائهم عبر الاستقواء بالخارج ويعملون اليوم على استجلاب قرارات دولية وعقوبات تجاه فريقنا»، مضيفاً أن «الاستقواء بالأجنبي يعقد ويعرقل الحل الرئاسي ولا ينفع هؤلاء بشيء لأننا لسنا نحن من يخضع أمام الضغوط والعقوبات».
وتابع قاووق: «صمدنا في حرب يوليو 2006 وانتصرنا ولم نخضع، ونتساءل هل سنخضع أمام أوهام وعقوبات؟ هؤلاء مغلّطين بالعنوان وهم من يتحملون مسؤولية إطالة أمد الأزمة والآتي من الأزمات».
وأشار النائب حسن فضل الله إلى أن «هناك كثيرين في لبنان يبنون مواقفهم التي تتعلق بالرئاسة، على ذبذبات خارجية وإشارات ومواقف من هنا وهناك».
وقال: «نحن لم نمانع بأي مساعدة غير مشروطة من الخارج سواء على المستوى المالي أو الاقتصادي أو السياسي، والموفدون يسمعون منّا مباشرة موقفنا في ما يتعلق بالاستحقاقات الداخلية التي نريدها أن تكون استحقاقات وطنية وبإرادة محلية، لأنه لا أحد بالخارج يستطيع أن يفرض خياراته الرئاسية على اللبنانيين».
ولفت وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم (محسوب على «حزب الله») الى «أننا في مرحلة صعبة وعندما ندعو الآخرين للحوار ولا يلبون الدعوة فالسبب بسيط وهو أننا فريق يملك موقفه ورأيه ولا أحد يملي رأيه علينا وإن كان طرفاً خارجياً أو دولياً، أما الأطراف الأخرى فهي لا تملك قرارها لذلك ترفض عملية الحوار، والقرار إلى الآن خارجي من قبل الولايات المتحدة، والكثير من الممسكين بخيوط اللعبة في لبنان قرارهم بأن يبقى هذا اللاستقرار مرحليا في لبنان».
وتابع «لن نسقط ولن نركع ولن نخضع لكل هذا».