في العرض التالي، وجهة نظر تخلص إلى المطالبة بإلغاء دوائر الجنح المستأنفة واستئناف المستعجل - أسواق مال، في درجة المحكمة الكلية، من أجل حسن سير العدالة، ومعالجة المراكز القانونية للمتهمين المقدمين للمحاكمة في جرائم الجُنح، المنصوص عليها في قانون إنشاء هيئة أسواق المال، ومعالجة المراكز القانونية للمتقاضين أمام الدوائر الإستئنافية المستعجلة بمحكمة أسواق المال.
محكمة أسواق المال
إن عرض هذه المشكلة الإجرائية التي ربما تكون قائمة منذ إنشاء محكمة أسواق المال بالمحكمة الكلية، واستفحلت حتى وصل الحال بالمتقاضين إلى التساؤل عن مدى سلامة الأحكام الصادرة من الهيئات الإستئنافية بحكمة أسواق المال بدوائرها الجزائية وغير الجزائية «الكلية»، وتتجسد تلك المُعضلة في أن القانون الرقيم 7/2010 نص في مادته 108/1، على أن: «تنشأ بالمحكمة الكلية محكمة تسمى (محكمة أسواق المال) ويصدر بتحديد مقرها قرار من وزير العدل بموافقة المجلس الأعلى للقضاء.
وتتألف المحكمة مما يلي: دوائر جزائية تختص دون غيرها بالفصل في الدعاوى الجزائية المتعلقة بالجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وتشكل دائرة الجنايات من 3 قضاة أحدهم بدرجة مستشار على الأقل، كما تشكل دائرة الجنح من قاضي من الدرجة الأولى على الأقل، وتتبع في تحريك الدعوى الجزائية ورفعها أمام تلك الدوائر القواعد والإجراءات المقرّرة في قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية، وذلك فيما لم يرد به نص خاص في هذا القانون».
4 دوائر
وعلى ضوء ذلك النص أُنشئت أربعة دوائر، منها دائرتان في المحكمة الكلية – بعد قرار الجمعية العمومية للسادة قضاة ووكلاء ومستشاري المحكمة الكلية – الأولى دائرة جُنح مفوّضة وأسواق مال، تختص بنظر جرائم الجُنح المنصوص عليها في قانون إنشاء هيئة أسواق المال وتنظيم نشاط الأوراق المالية، ودوائر جنح مستأنفة وأسواق مال للنظر في ما يستأنف من أحكام من دوائر جنح أسواق المال، ودوائر أخرى مستعجلة فردية تختص دون غيرها في نظر كل الدعاوى المستعجلة والتي يخشى عليها من فوات الوقت، ودوائر استئناف مستعجل وأسواق مال – بمظلّة المحكمة الكلية.
أخذاً بالاعتبار أن المادة 108 المُشار إليها لم تنص على إنشاء دائرة للجُنح المستأنفة في محكمة سوق المال الكلية للنظر في الطعون المُقامة على أحكام دوائر الجُنح في الدرجة الأولى، أو دائرة استئنافية تختص لما يُستأنف من الدوائر المستعجلة بمحاكم سوق المال، بل اقتصر النص على محكمة الدرجة الأولى (المحكمة الكلية) وهي دائرة الجُنح أو الدائر المستعجلة.
هذا وبالنظر إلى المادة 112 من ذات القانون، نجد أن المشرع أوكل الاختصاص في نظر الاستئنافات المقامة على أحكام الجنح الصادرة من الدائرة الجزائية بمحكمة سوق المال بجرائم الجُنح للدائرة الجزائية، بمحكمة الاستئناف – استئناءً من الأصل العام الوارد في قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية بالنسبة للجُنح المستأنفة كهيئات استئنافية في درجة المحكمة الكلية تختص لما يُستأنف من أحكام صادرة من محاكم الدرجة الأولى.
واستثناءً أيضاً من الأصل العام الوارد في قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية بالنسبة للدوائر الاستئنافية المستعجلة «الهيئات الاستئنافية بالمحكمة الكلية».
التقاضي على درجتين فقط
إن المتمعن من هذا النص يجد أن المشرع كفل حق التقاضي أمام محكمة أسواق المال على درجتين فقط، على أن يكون الحكم الصادر في الاستئناف – من محكمة الاستئناف وليس من الهيئات الاستئنافية، التي تكون في درجة المحكمة الكلية - حكماً باتاً لا يجوز الطعن عليه بأي طريق من طرق الطعن، فإن القانون جعل اختصاص محكمة الاستئناف بدائرتها الجزائية (أسواق المال) هي المُختصة – دون غيرها – بنظر استئناف الأحكام الصادرة في مسائل الجُنح المنصوص عليها في قانون إنشاء هيئة أسواق المال وتنظيم نشاط الأوراق المالية، على غرار جُنح جرائم البلدية.
اختصاص محكمة الاستئناف بدائرتها غير الجزائية، هي المُختصة – دون غيرها – بنظر استئناف الأحكام الصادرة في المسائل المستعجلة، والتي يخشى عليها من فوات الوقت المنصوص عليها في المادة 108/3 من قانون إنشاء هيئة أسواق المال وتنظيم نشاط الأوراق المالية سواء في الإشكالات في التنفيذ أو الدعاوى المستعجلة الصادرة من محاكم سوق المال المستعجلة، ولا ينال من ذلك الرأي القائل بأن العبارة التي بدأ بها المشرع في مطلع المادة 112 من القانون 7/2010 في شأن إنشاء هيئة أسواق المال وتنظيم نشاط الأوراق المالية، التي قرّرت عبارة «تُرتب بمحكمة الاستئناف» بأنه لم يتضمن عبارات قاطعة في الدلالة، كما هو حال المادة 108 من ذات القانون، التي خصها المشرع بعبارة «تختص محكمة سوق المال دون غيرها»، ذلك أن ما عناه المشرع حول إنشاء دائرة غير جزائية بمحكمة الاستئناف - سوق المال، تختص بالنظر لما يُستأنف من الدائرة المستعجلة بمحكمة أسواق المال الكلية التي يخشى عليها من فوات الوقت، ودائرة جزائية بمحكمة الاستئناف تختص بتلقي ما يُستأنف من أحكام صادرة من دوائر الجنح المفوضة بمحكمة سوق المال الكلية.
حكم تمييز الجُنح
من الأهمية بمكان الإشارة إلى حكم هيئة تمييز الجُنح بمحكمة الاستئناف في الطعن رقم 213 /2021 تمييز الجنح المستأنفة/1 في تاريخ 13 /7 /2021، الذي قطع بعدم اختصاص الهيئات الاستئنافية (دوائر الجنح المستأنفة وأسواق مال) بالمحكمة الكلية، وإحالة الاستئناف للاختصاص لدائرة سوق المال الجزائية بمحكمة الاستئناف العليا للاختصاص.
لذلك يتعين إمعان النظر في إيجاد حلول أو آلية من شأنها إعادة قيد كل الطعون المنظورة أمام دوائر الجُنح المستأنفة - أسواق المال بالمحكمة الكلية بالشكل المرسوم لها قانوناً وقيدها أمام دائرة الاستئناف الجزائية المختصة (أسواق مال) بمحكمة الاستئناف والعمل نحو إلغاء (دوائر الجنح المستأنفة أسواق مال من توزيع العمل القضائي).
الدوائر المستعجلة
أما بالنسبة لما يُستأنف من أحكام صادرة من الدوائر المستعجلة في محاكم سوق المال، لا ينبغي أن يتم قيدها أمام (دائرة استئناف مستعجل أسواق مال)، والتي بدرجة المحكمة الكلية، وإيجاد آلية نحو إحالة جميع الاستئنافات على الأحكام المستعجلة ومنازعات التنفيذ الوقتية الصادرة من محاكم أسواق المال الفردية بدرجتها الأولى، كما هو الحكم الحديث الصادر في الاستئناف الرقيم 135/2022 استئناف تجاري أسواق مال/2 الصادر بتاريخ 18/5/2023 والذي رسّخ قاعدة جديدة إعمالاً لصحيح القانون، إذ قررت الآتي:
«... أن المشرع لم يشأ في إنشاء دوائر كلية بهيئة استئنافية تختص بنظر الطعن بالاستئناف على أي من الأحكام تصدر من الدوائر الكلية بمحكمة أسواق المال في مختلف اختصاصاتها، فقرر استمرار محكمة الاستئناف والمحكمة الكلية بهيئتها الاستئنافية بنظر الطعون المرفوعة إليها من الأحكام الصادرة في القضايا التي أصبحت من اختصاص محكمة سوق المال أو تلك التي رفعت إليها بعد نفاذ هذا القانون، حتى يصدر حكم بات في موضوعها، ثم بعد ذلك لا يكون هناك اختصاص بنظر الطعون بالاستئناف عن الأحكام الصادرة من الدوائر الكلية بمحكمة أسواق المال بصفة عامة، إلا للدائرة المختصة بمحكمة الاستئناف والتي أنشأها القانون المشار إليه وباعتباره قانوناً خاصاً صدر لاحقاً على قانون المرافعات المنظم لاختصاص المحاكم بصفة عامة ويكون هو الواجب التطبيق، وتكون محكمة أسواق المال بدائرتها الاستئنافية غير الجزائية هي المختصة بالفصل في الطعن الماثل عن الحكم الصادر من القاضي الفرد المختص بالفصل في إشكالات التنفيذ الوقتية المتعلقة بالأحكام الصادرة من محكمة أسواق المال».
استدراك استفحال المشكلات
لذلك نتمنى على السادة القائمين على جهاز العدالة وتوزيع العمل القضائي إعادة النظر في مدى شرعية إنشاء دوائر استئناف مستعجل أسواق مال ودوائر جنح المستأنفة أسواق مال في درجة المحكمة الكلية، وذلك لحفظ المراكز القانونية سواء للمتقاضين في المسائل المستعجلة، وللمتهمين الذي أقاموا استئنافهم أمام جدول محكمة غير مختصة، ولنيابة سوق المال على حد السواء.
لذلك يتعين استدراك استفحال المشكلات الإجرائية التي تئن منها المحاكم والمتقاضون والمحامون المشتغلون بقضايا أسواق المال، نحو تصحيح المسار الإجرائي. والله من وراء القصد.