وضع تمرد مجموعة «فاغنر» التي يرأسها يفغيني بريغوجين، على القيادة العسكرية الروسية، الرئيس فلاديمير بوتين أمام تحدٍ يمكن أن يضر بهيبته بشكل لا رجوع فيه، بحسب محللين. وبينما تهدد الأزمة المتسارعة بإلحاق ضرر دائم بزعيم الكرملين، الذي بنى على مدى أكثر من عقدين في السلطة، صورة الزعيم الأوحد الممسك بمفاصل هيكلية حكم متماسكة.
فقد استفاد بوتين على مدى الأعوام من أنشطة «فاغنر»، لكن تمرّد بريغوجين على القيادة العسكرية، وضع الرئيس الروسي أمام تحدٍ قد يضر بهيبته بشكل لا رجوع عنه، وفق محللين.
وخلال عقود، خدمت الأدوار العسكرية لـ «فاغنر» في أفريقيا وسورية وشرق أوكرانيا المصالح السياسية لبوتين، الذي بدا مغتبطاً من التنافس الداخلي الذي تثيره نجاحات هذه المجموعة، عوضاً عن الخشية من تنامي دورها.
إلا أن «فاغنر» التي استفادت من دعم بوتين على مدى الأعوام، انقلبت عليه. وبريغوجين الذي كان حليفاً له، واكتسب لقب «طاهي الكرملين» نسبة إلى توفير مجموعته خدمات الطعام لمقر الرئاسة، بات يدفع بقواته في اتجاه موسكو.
وعكست سرعة توجيه بوتين خطاباً إلى الأمة بعد ساعات من إعلان «فاغنر» السيطرة على مقرات عسكرية في مدينة روستوف-نا-دونو، السبت، والحدة التي اتسمت بها كلماته وتعابير وجهه، جدية التهديد الذي يمثله ما أقدم عليه بريغوجين من منظار الكرملين.
وفي حين تحظى الدولة الروسية بمقدرات عسكرية تتيح لها في نهاية المطاف التفوق على هذا التمرد المسلح وحتى سحق «فاغنر»، إلا أن الأزمة المتسارعة تهدد بإلحاق ضرر دائم ببوتين.
وتقول مديرة شركة «آر بوليتيك» للتحليل السياسي تاتبانا ستانوفايا، إن «موقف بوتين الواضح هو إخماد التمرد»، مضيفة أن بريغوجين «محكوم عليه بالفشل»، حتى في حال تطلب إنهاء حركته المسلحة «وقتاً طويلاً».
وتتابع عبر قناتها على «تلغرام» أن «الكثيرين ضمن النخبة الروسية قد يلقون باللائمة على بوتين شخصياً لبلوغ الأمور هذا المدى، وأن الرئيس لم يقم برد فعل مناسب في وقت ملائم، لذلك هذه القصة هي أيضاً ضربة لمواقف بوتين».
ورأت وزارة الدفاع البريطانية في تقييم استخباري، أن تمرد «فاغنر» يعد «أهم تحدٍ للدولة الروسية في الزمن الحديث».
واكتسبت «فاغنر» دوراً رئيسياً في الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتولت أخطر المهام على خطوط الجبهة، في ظل تراجع أداء الجيش وتكبده هزائم كبيرة في الأرواح، وفق تقديرات المصادر الغربية.
ويقول الباحث في مركز كارنيغي روسيا-أوراسيا ألكسندر بونوف: «لفترة طويلة، تم السماح لبريغوجين بمهاجمة النخبة، نظراً لفائدته على الجبهة، إضافة إلى بعض الفائدة لبوتين بالذات».
لكن الحرب عززت موقع بريغوجين وثقته بنفسه، إذ أقر للمرة الأولى علناً بأنه مؤسس مجموعة المرتزقة، بعد نفي ذلك لأعوام، وقيامه بشكل علني أيضا بتجنيد مقاتلين من السجون الروسية.
في البداية، اعتبر تموضعه ودوره معززين للجهد الحربي للكرملين، قبل أن يتحول بشكل تدريجي إلى تحدٍ نادر وعلني للرئيس الروسي، الذي حاول الإبقاء على مسافة بينه وبين حليفه السابق، ولم يلتقه علنا منذ بدء الغزو في فبراير العام 2022.
وزاد بريغوجين في الآونة الأخيرة من انتقاداته اللاذعة للقيادة العسكرية، ووجهها بشكل مباشر إلى وزير الدفاع سيرغي شويغو، أحد الأصدقاء الشخصيين المعدودين لبوتين في النخبة الروسية.
ويرى بونوف، أن بريغوجين قرر «تجاوز الحد» مع القيادة الروسية، اعتبارا من 13 يونيو، يوم أعلن بوتين أن مجموعات المرتزقة مثل «فاغنر» يجب أن تكون خاضعة لسلطة وزارة الدفاع، وهو ما سبق أن عارضه بشدة لفترة طويلة.
ولفت المراقبون السبت إلى أن بوتين لم يذكر في كلمته إلى الأمة، اسم بريغوجين، وهو تكتيك اعتمده في السابق في أثناء التحدث عن ألدِّ خصومه، مثل المعارض الموقوف أليكسي نافالني.
اهتزاز كرسي الحكم
ويرى جيمس نيكسي مدير برنامج روسيا-أوراسيا في مركز «تشاتم هاوس» للأبحاث في بريطانيا، أن بريغوجين «هو أشبه بوحش فرانكنشتاين» قد يكون أجيز له في مرحلة سابقة «التسبب بصدمة للجيش الروسي تدفعه إلى تقديم أداء حربي أكثر فاعلية».
ويضيف لـ «فرانس برس»: «لكن الأمر بلغ الآن (مرحلة هي) أبعد بكثير مما تخيله بوتين على الإطلاق».
وفي حين يجزم نيكسي، بأن بريغوجين يفتقد «العديد والقوات والدعم» الذي يتيح له السيطرة على موسكو، إلا أن ما يقوم به «يبقى أول تحدٍّ جدي مباشر لسلطة بوتين خلال 24 عاماً».
وتتناقض تصرفات بريغوجين مع ما يقوم به الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، الذي بنى بدوره ميليشيا قوية، إلا أنه بقي حليفاً وثيقاً للكرملين.
وأعلن قديروف السبت، إرسال وحدات إلى «مناطق التوتر»، مشدداً على ضرورة «إنهاء التمرد، وفي حال كانت إجراءات قاسية مطلوبة، فنحن مستعدون لذلك».
وتشدد أستاذة العلوم السياسية آنا كولان ليبيديف، على أن بحوزة موسكو كل ما يلزم «لاستعادة السيطرة».
وتضيف: «لكن هذا الوضع غير المسبوق يؤكد للنخب أن زمن الاستقرار انتهى، وأن الدولة التي اعتقدنا أنها قوية، لديها عيوب. كرسي الحكم اليوم هو أكثر اهتزازاً بقليل مما كان عليه بالأمس».