من كان ليظن أن يفغيني بريغوجين، بائع النقانق، الذي سطع اسمه خلال المعارك الروسية في أوكرانيا قبل أشهر، سيعلن ما يشبه الانقلاب العسكري على قادة الجيش الروسي.

فقد فاجأ قائد مجموعة فاغنر الروسية، البالغ من العمر 62 عاماً الجيش الروسي بدعوة عناصره للقتال ضد القادة، ما اعتبر في موسكو تمرداً غير مقبول.

أول مرة برز اسمه، كانت في ذروة الغزو الروسي السري الأول لشرق أوكرانيا، في صيف 2014، حين اجتمعت مجموعة من كبار المسؤولين الروس في مقر وزارة الدفاع، وهو مبنى مهيب من عهد ستالين على ضفاف نهر موسكفا.

حضروا إلى هذا المكان في حينه لمقابلة يفغيني بريغوجين، رجل في منتصف العمر برأس حليق وصوت خشن، باعتباره الشخص المسؤول عن عقود تموين الجيش.

وقد تقدم حينها بطلب غريب من وزارة الدفاع، ألا وهو منحه أرضاً يستخدمها لتدريب «متطوعين» لا تربطهم صلات رسمية بالجيش الروسي، وإنما يمكن استخدامهم لخوض حروب روسيا.

وقتها لم يستلطف العديد من القادة الموجودين هذا الطلب، لكن بريغوجين كان حاسماً، مؤكدا أنها أوامر «البابا» في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هذا ما أكده مسؤول سابق رفيع المستوى في وزارة الدفاع الروسية كان على اطلاع مباشر بتلك المناقشات، وفق ما نقلته صحيفة «الغارديان».

ومنذ ذلك الاجتماع، بدأت قدرات مجموعة فاغنر تتوسع ويتسلل مقاتلوها إلى ساحات حرب خارجية، وصولا أخيراًً إلى الجبهات في أوكرانيا.

كما اكتسب بريغوجين شهرة واسعة بين قادة الجيش وإن لم يكن محبوبا في معظم الأحيان.

فيما وصفه رجل أعمال روسي يعرفه منذ التسعينات «بأنه حيوي ونشيط وموهوب، لكنه عنيد أيضا ولا يتراجع أبداً حتى يحصل على ما يريد».

أما من قاتل معه في أوكرانيا أو غيرها من البلدان، فيصفه بالوحشي وعديم الرحمة!

فيما أكد بعض عارفيه أنه لم يسع وراء المال أو السلطة على الرغم من أنه حصل الاثنين معاً على طول مسيرته.

بل أوضحوا أنه يتحرك بدافع الإثارة والاعتقاد بأنه يحارب النخب الفاسدة نيابة عن الناس العاديين، مع الرغبة أيضا في سحق منافسيه.

لكنه على مر السنين، ربى العديد من الأعداء، من رجال الأعمال والشركاء السابقين، مرورا بجنرالات الجيش الذين انتقدهم مراراً ودون كلل باعتبارهم بيروقراطيين جالسين في مكاتبهم وكبار المسؤولين الأمنيين الذين يخشون أن يكون لديه طموحات للاستيلاء على السلطة السياسية.

لكنه احتفظ حتى أمس بحماية أهم داعم له، ألا وهو «الرجل الذي يسميه بابا».

غير أن «البابا بوتين» تخلى عنه الآن بعد أن أعلن عصيانه، رافعا الغطاء عن تاريخ «أسود»!

فبريغوجين الذي ولد في لينينغراد، سانت بطرسبورغ الآن، عام 1961، بعد تسع سنوات من ولادة بوتين، توفي والده وهو صغير، فراح الولد «يشاغب» بعنف. إذ انضم إلى حشد من المجرمين الصغار.

فقد أكدت وثائق قضائية من عام 1981، بحسب الغارديان، أنه في مارس 1980، وحين كان بريغوجين يبلغ من العمر 18 عاما سطا على امرأة وسرقها مع رفاقها في أحد شوارع بطرسبورغ.

كما ارتكب لاحقا عمليات سطو أخرى على مدى عدة أشهر. ليحُكم عليه بالسجن 13 عامًا.

ثم أطلق سراحه عام 1990، حيث كان الاتحاد السوفيتي ينهار. فعاد إلى سان بطرسبورغ، حيث كانت المدينة على شفا تحول هائل، مع ثروات كبيرة تنتظر أولئك الأذكياء أو العنيفين بما يكفي للاستيلاء عليها.

فبدأ الرجل في بيع النقانق، في مطبخ بشقة متواضعة تعود لعائلته.

لكن طموحاته كانت أكبر كثيرا وقد عرف كيف يحققها.

ولم يمض وقت طويل حتى امتلك بريغوجين حصة في سلسلة من المتاجر الكبرى. ثم عام 1995 قرر أن يفتح مطعما مع شركائه في العمل.

في البداية، استخدم «راقصات ومتعريات» لإغراء الزبائن، لكن بعدما انتشر الخبر أن الطعام ممتاز، تم فصل المتعريات.

فراح نجوم البوب ورجال الأعمال يتقاطرون على هذا المطعم، وكذلك فعل رئيس بلدية سان بطرسبورع، أناتولي سوبتشاك، الذي كان يأتي أحيانًا مع نائبه حينها فلاديمير بوتين!

كما صادق مع عازف التشيلو الشهير مستيسلاف روستروبوفيتش، الذي هاجر من الاتحاد السوفيتي في السبعينات.

وعندما استضاف روستروبوفيتش ملكة إسبانيا في منزله في سان بطرسبورغ عام 2001، قدم بريغوجين الطعام.

حتى إن روستروبوفيتش دعا بريغوجين وزوجته إلى حفل موسيقي في باربيكان، بعيد ميلاده الخامس والسبعين في 2002، وفقًا لسجلات أوركسترا لندن السيمفونية لقائمة الدعوة لهذا الحدث.

في ذلك الوقت، كان بوتين قد أصبح رئيسا لروسيا.

وخلال السنوات الأولى من حكمه، كان الرئيس الروسي يحب في كثير من الأحيان مقابلة الشخصيات الأجنبية المرموقة في مسقط رأسه.

فكان يصطحبهم أحيانًا إلى مطعم بريعوجين أو إلى نيو آيلاند، حيث تحول قارب يفغيني إلى مطعم عائم.

ومنذ ذلك الحين، بدأ بريغوجين يفوز بعقود لتقديم الطعام في مناسبات حكومية كبرى من خلال شركة كونكورد، وهي شركة قابضة أنشأها في التسعينات.

وفي عام 2012، فاز بأكثر من 10.5 مليار روبل (200 مليون جنيه إسترليني) من العقود لتوفير الطعام لمدارس موسكو، حسبما ذكرت وسائل إعلام روسية، نقلاً عن سجلات من السجل المالي الروسي.

بعد ذلك، ظهرت فرص أخرى لـ «طباخ بوتين» عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في مارس 2014 وتدخلت عسكريا في شرق أوكرانيا بعد فترة وجيزة.

ففيما نفى بوتين أن تكون القوات الروسية النظامية متورطة في أي من الحالتين، كانت قوات فاغنر في الميدان!

ومنذ ذلك الحين، بدأ تدخل تلك المجموعة العسكرية الخاصة التي يرأسها بريغوجين عسكريا في العديد من الدول لاسيما الإفريقية، لتحط رحالها قبل أشهر في أوكرانيا، وهي الساحة التي شقت صفوف القوات الروسية، وأظهرت «تمرد» بائع النقانق!.