... «هدوء ما بعد العاصفة». هكذا بدا المشهد في بيروت غداة جلسة الـ لا انتخاب الرئاسية التي خَرَجَ منها طرفا معركة «تكسير الرؤوس» بالنقاط التي أراداها لإكمالِ المنازلة في جولةٍ لاحقةٍ تنتظر انقشاعَ الرؤية في المسار الخارجي للأزمة التي يُخشى أن تبقى رهينةَ التوازن الداخلي السلبي وعدم تبلْور وقوف لبنان حتى الساعة على خط «تأثيرالدومينو» للمتغيرات والانفراجات الاقليمية.

ووصفتْ أوساط مطلعة «الهدنة» التي أخذها الملف الرئاسي بأنها أقرب إلى «استراحة مُحارِب» بهدف إحصاء الأرباح والأضرار لكلّ من تقاطُع غالبية المعارضة – التيار الوطني الحر الذي حقّق مرشّحه جهاد أزعور فوزاً لم يُجْدِ لانتخابه رئيساً، وفريق الممانعة الذي خسر مرشحه سليمان فرنجية ولم يَجِدْ حَرَجاً في إدراج الأمر في سياقات «معادلات الصمود».

وبدا واضحاً أن معسكريْ «مواجهة 14 يونيو» تحت قبة البرلمان، انخرطا أمس في عملية تقويم رقمية وسياسية لمجريات الجلسة الانتخابية رقم 12. وقد تَعَمَّدت قوى الممانعة، وفي مقدّمها «حزب الله»، تظهير أنها «مرتاحة جداً ونحن» مبسوطين «لأن الحقائق انكشفت أمس (أول من أمس) والمعادلة ظهرت في شكل واضح، واليوم يوم آخَر».

في المقابل تمكّنت غالبية المعارضة من امتصاص الارتجاجاتِ في تكتّلها الذي شكّله تَسَرُّب أصوات من تحت جسر التقاطع مع «التيار الحر» إلى ضفة فرنجية، ما جَعَلَ «حزب الله» الذي تلقى خسارةً سياسيةً لا لبس فيها ينجح في «حربٍ نفسية» بدا أكثر دراية وحنكة فيها.

فالحزب خفّض عشية موْقعة الأربعاء التوقّعات حيال الأصوات التي سينالها مرشّحه وتَرَكها عند هامش 43 أو 45 فيما كان «العمل الحقيقي» يَجْري بسرية مطلقة لضمان رقم فوق الخمسين لزعيم «المردة» وهو ما جَعَلَ حصوله على 51 ورقة تحمل اسمه بمثابة «قنبلة صوتية» طغى دويها على خسارة فرنجية بالنقاط الثمانية أمام أزعور والتي لَكان وهجُها أقوى لولا «الصوت الضائع» الذي اعتبر داعمو الأخير أنه «هُدِر» في خفاءٍ وعلى طريقة خِفّة الساحر التي أخْفت هذه المرة صوتاً كان سيُدخل ترشيح الوزير السابق للمال إلى «نادي الستين (صوتاً).

ولم «تهضم» المعارضة ما اعتبرتْه أوساطها حرمانها عبر«اللعب بصوت»من بُعد معنوي كونه يُطِلق ضمناً العدّ العكسي لاستقطاب آخِر 5 أصوات تفصل عن «الرقم السحري» وهو 65 (النصف زائد واحد الذي يمكّن المرشح من الفوز في الدورة الثانية) الذي كانت بعض أجواء المعارضة أفرطتْ في توقُّع بلوغه مع ما كان سيعنيه من أنه بات في رصيد أزعور «وديعة ذهبية» تنتظر لتسييلها دورةً ثانية (طيّرها فريق الممانعة كما في الجلسات الـ 11 السابقة)، وأن أي تخلٍّ عنها سيكون لقاء ثمنٍ لها الأفضلية في تحديده على أي طاولة تَفاوُض.

وأوحت مناخات قوى الممانعة أنها ثبّتت موقع فرنجية وأوقفت مسار إقصائه«الذي جَمَع الأضداد والإخوة الأعداء»وأنها أحبطت عمليةً أريد منها تنفيذ «إنزال رئاسي» بالخيار الثالث، الذي قابله هذا الفريق بإحياء «خيار الحوار ثم الحوار ثم الحوار» مع رفْض أي اشتراطات مثل إخراج زعيم «المردة» من لائحة المتحاوَر حولهم وفق ما سبق للحليف «القديم» للحزب أي التيار الحر أن طلب.

كما بدا«حزب الله»وكأنه انتقل إلى «تلّة» وهو يرصد ليس هل بل متى سيتفكّك تقاطُع غالبية المعارضة – التيار الحر على أزعور، بعدما كان بعض نواب التغيير وقوى أخرى تعاطت مع التصويت لهذا الخيار على أنه على طريقة «لمرة واحدة وأخيرة»، وسط رهاناتٍ لـ «الممانعة» على أن البقاء على هذا الاسم سيكون متعذّراً كما التقاطع على غيره لإكمال المواجهة، ناهيك عن أن ثمة أطرافاً صوّتت لوزير المال السابق مراعاةً لشبه الإجماع المسيحي ويُرجَّح أن «توازن» الموقف عبر ملاقاة دعوة الرئيس نبيه بري إلى الحوار والتفاهم، وبينها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.

وارتسمت أيضاً ملامح انتظار «على ضفة النهر» من فريق الممانعة لتشظيات جلسة الأربعاء على جسم التيار الوطني الحر الذي تنهشه شكوك كبيرة في أن نواباً من تكتله (4 أو 5) تمرّدوا على خيار رئيسه باسيل وصوّتوا لفرنجية، مع تقديراتٍ بأن قيادة التيار لن تقرّ علناً بهذا الأمر لعدم الرغبة في تظهير تقلُّص تأثير باسيل على تياره وكتلته إلى حدود 11 أو 12 نائباً (من 17 من دون احتساب نواب الطاشناق الثلاثة الذين لهم هامش تحرك منفرد) وهو ما قد يترك ندوباً على مجمل حجمه السياسي سواء في مرحلة التفاوض على الرئاسة أو على سلة كاملة تشمل أيضاً الحكومة والتعيينات الرئيسية كما يُشتمّ من دعوة «الممانعة» إلى الحوار.

على أن قوى المعارضة التي دعمت أزعور وحتى«التيار الحر»لم تعطِ أي إشاراتٍ لإمكان التخلي عن مرشّحها أقلّه قبل أن يُبْدي الفريق الآخَر استعداداً للتراجع عن خيار فرنجية، باعتبار أن هذا سيكون بمثابة تبديدٍ لكل النقاط التي راكمتْها والتي تعاطت معها على أنها«انتفاضة بوجه محاولات الفرض»والتي تلقّاها كثر على أنها نواة حال معاندةٍ فاعلة ووازنة بوجه «حزب الله» يمكنها تصحيح اختلال التوازن وقد يُبنى عليها في المسار الخارجي للأزمة وأي مسارب قد تُفتح للحل.

وإذ سبق لغالبية المعارضة أن رفضت مبدأ الحوار خارج جلسات مفتوحة ومتتالية للبرلمان حتى انتخاب رئيس، من دون أن يُعرف موقف التيار الحر هذه المرة من هذه الدعوة، تعمّد 31 نائباً من المعارضة يمثلون حزبي القوات اللبنانية والكتائب وكتلة «تجدد» ومستقلين تأكيد التمسك بترشيح أزعور، معتبرين أن جلسة الأربعاء أظهرت«أن الغالبية الكبرى من ممثّلي الشعب اللبناني ترفض بوضوح المرشح المفروض من فريق الممانعة، إذ لم يَنل، وبالرغم من جهود الحشد وكل الضغوط التي مورست في الأيام الماضية، سوى 51 صوتاً مقابل 77 نائباً صوّتوا ضد هذا الترشيح، بل أكثر من ذلك، فقد انتخب 59 نائباً المرشّح الوسطي جهاد أزعور الذي تلاقت عليه قوى سياسيّة مختلفة بهدف كسر الجمود الرئاسي، علماً أن عدداً إضافيًا من النوّاب والكتل كانوا قد أعلنوا صراحةً عن نيّتهم التصويت له في الدورة الثانية».

وأكد نواب «قوى المعارضة» أن منطق التعطيل والفرض هو تحديداً ما نواجهه وقد تلقّى هذا المنطق صفعة مدوية جرّاء نتيجة التصويت بالأمس، الذي أنهى عملياً حظوظ وإمكان فرض مرشّح فريق الممانعة على اللبنانيين»، مؤكدين «استمرارنا في دعوة الجميع إلى التلاقي على ترشيح جهاد ازعور، ونكرّر أنّه المرشّح الذي تنوي المعارضة التقاطع عليه بهدف إيصاله إلى سدّة الرئاسة».

وفي موازاة ترقُّب استئناف التواصل بين «القوات اللبنانية» و«التيار الحر» لتحديد الخطوة التالية بعد جلسة الأربعاء، شخصت الأنظار أمس على عنوانين:

- الأول خارجي شكلته المعلومات عن لقاء عُقد في باريس بين السفير السعودي في لبنان وليد بخاري والمستشار الفرنسي باتريك دوريل للتباحث في شأن الاستحقاق الرئاسي، وذلك عشية القمة اليوم بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس ايمانويل ماكرون، والتي سيحضر فيها الملف اللبناني قبل أيامٍ من تدشين المبعوث الشخصي لماكرون المكلف حديثاً الوزير السابق جان - إيف لودريان، مَهمة في بيروت تشمل الأزمة الرئاسية، بعد اعتبار تعيين الأخير بمثابة تصحيح لتموْضع باريس خلف فرنجية ودفْعها مركب إيصاله.

- والثاني محلي تمثل في مشهدية الفوضى والصخب في الشارع أمس، حيث نفذ عشرات المواطنين اعتصامات أمام فروع مصارف في وسط بيروت وشرق العاصمة تخلّلها إحراق إطارات عند مداخلها وتحطيم زجاج واجهاتها، كما حصل أمام بنك عودة وبنك بيروت في منطقة سنّ الفيل وبنك بيبلوس عند مستديرة الصالومي.

ورغم أن المحتجين هم من المودعين وأن وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال عصام شرف الدين شارك في اعتصامهم أمام مسجد الأمين - ساحة الشهداء حيث طالبوا «المسؤولين بتحمُّل مسؤولياتهم أمام الشعب، واعادة أموال المودعين ومحاكمة حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف وكل الفاسدين في الدولة»، فإن هذا التحرك سرعان ما اعتُبر من بعض الأوساط «غير بريء» وأنه رسالة غداة جلسة الأربعاء وبمثابة «تمرين» و«تحمية للأرض» مواكبةً لمرحلة ما بعد تبادُل «تسجيل النقاط» في صندوقة الاقتراع.

في الأثناء، ساد رصْدٌ لِما إذا كانت أي ترجمات، بعقوبات أو غيرها، ستحصل بعد موقف وزارة الخارجية الأميركية التي عبّرت عن «قلقها العميق إزاء تصرفات أعضاء البرلمان اللبناني الذين غادروا المجلس، ما يعرقل فعلياً التصويت على انتخاب رئيس للجمهورية. وقد أدت هذه الخطوة إلى تفاقم حالة عدم اليقين السياسي وعدم الاستقرار».

وإذ شددت الوزارة على «أن قادة لبنان ونخبه يجب أن يعطوا الأولوية لمصالح الشعب اللبناني فوق طموحاتهم ومصالحهم الشخصية»، سلطت الضوء على «الحاجة الملحة كي يعالج القادة اللبنانيون الشلل السياسي المستمر داخل البلاد».