هي المرة الرابعة يزور مؤسِّس «التيار الوطني الحر» الرئيس السابق ميشال عون دمشق ويلتقي الرئيس السوري بشار الأسد، ولكن محطة 6 يونيو 2023 تختلف عن سابقاتها في ديسمبر 2008 وديسمير 2009 ويونيو 2010 بأنها جاءتْ في توقيتٍ حَرِج على مستوى لبنان العالق في عنق زجاجة الأزمة الرئاسية، كما على صعيد ما يواجهه «الوريث» السياسي لـ «الجنرال» أي النائب جبران باسيل الذي باتت متاعبه مع حلفائه في محور الممانعة في مقدّمهم «حزب الله» توازي مشكلته العميقة مع خصومه المتموْضعين ضمن قوى المعارضة.

وإذا كانت زيارتا 2008 و2009 حَفَرتا في الذاكرةِ السياسيةِ كون الأولى توّجت «مصالحةً» حُبكت خيوطُها منذ ما قبل عودة عون من منفاه الباريسي الى بيروت (مايو 2005) وطُويت معها صفحة عداءٍ انطبع بحرب التحرير ضد سورية ووجودها في لبنان ومشاركة دمشق في العملية العسكرية لإطاحة «الجنرال» من قصر بعبدا (13 اكتوبر 1990)، فيما استبقت الثانية بأيامٍ «الكأس المُرّة» التي تجرّعها الرئيس سعد الحريري بلقاء الأسد «فكانت أصعب لحظات حياتي بمصافحة قاتِل أبي»، فإن محطة يوم أمس المفاجئة جاءت مدجَّجةً بأبعاد ترتبط بوضعيّة التيار الحر ورئيسه باسيل في اصطفافه الرئاسي الذي يغرّد فيه خارج سرب «حزب الله» وتشكيله «خطاً مانعاً» عريضاً، بتقاطُعٍ مع المعارضة، لوصول «الصديق الأول للأسد» زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية.

ورغم ما نقلتْه «قناة الميادين» عن مصدر قريب من عون، الذي رافقه إلى دمشق الوزير السابق بيار رفول الذي لم ينقطع عن التواصل الدوري مع القيادة السورية، من أن الملف الرئاسي «ليس على جدول البحث مع الرئيس الأسد» وأن الزيارة «طبيعية» وأن سورية «بوابة المشرق العربي، ولذلك أتت هذه المحطة»، إلا أن أوساطاً مطلعة اعتبرتْ أن من الصعوبة بمكانٍ فصْل الزيارة عن معاني «صِدام الخيارات» بين التيار الحر وحزب الله في الاستحقاق الرئاسي حيث وجد باسيل نفسه في تقاطُع اضطراري مع خصوم الحزب ودمشق داعِماً ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور.

وتقاطعتْ المعطياتُ التي توافرتْ عن الزيارة وتوقيتها عند أنها انطوت على رسالةٍ بأن التيار الحر لم يبدّل تَمَوْضُعَه الاستراتيجي وبأنّ وقوف باسيل في «خندق واحد» مع قوى المعارضة موْضعياً وتصويته القسري في جلسة 14 الجاري الانتخابية لأزعور ليس في إطار «نقْل البارودة» بل أقرب إلى «تغيير نوع الخرطوش» تحت سقف رفْض خيار فرنجية الذي بات هناك شبه إجماع مسيحي على عدم السير به.

وإذ بدا من المبكر رصْدُ وقْع هذه الزيارة لدى «حزب الله»، الذي يُحيل الأسد عليه كل «طالِب مُساعَدة» له في الملف الرئاسي، من فرنجية إلى التيار«باعتبار أن الأمر للحزب» في الاستحقاق الرئاسي، فإن ما تردّد عن إمكانِ أن يطلب عون وساطةَ الرئيس السوري في ما خصّ الخلاف بين باسيل و«حزب الله» وتوقُّع ترجماتٍ قريبة له اعتُبر مبالَغاً فيه ولا سيما أن «مكوّنات» هذا الخلاف متشابكة ويشكل الملفُّ الرئاسي «رأسَ جبل الجليد» فيه، إلى جانب عنصر أساسي يتمحور حول اعتبار رئيس التيار أن رئيس البرلمان نبيه بري هو عائق رئيسي في العلاقة مع الحزب كما أنه «السبب العميق» وراء رفْضه لفرنجية، وهو الموقف الذي سبق لباسيل أن أبلغه إلى دمشق عبر موفدين «شاكياً» بري.

وفي رأي الأوساط نفسها أن مشكلة عون شخصياً مع فرنجية هي الأكبر، لاعتباره أن زعيم «المردة» شكّل مع بري جبهة رفْض لانتخابه في 2016 وصولاً لـ«التجرؤ» على منازلته رئاسياً ثم تعطيل عهده برمّته، وهو ما يفسّر التغطية الكبيرة من «الجنرال» لباسيل في خياره المعترض على فرنجية، لافتةً إلى أنه لا يُعوَّل الكثير على زيارة عون لدمشق التي لم تَستسغ أصلاً امتناع الأخير وطوال ولايته عن التوجّه إليها كرئيسٍ للجمهورية في عزّ الحرب فيها، وسط اقتناعٍ بأن محاولة استدراج الأسد للملف الرئاسي لن تنجح وإن كانت محطة الرئيس السابق في سورية يمكن أن تُطَمئن المعترضين داخل التيار الحر على السير بأزعور إلى أن هذا «التكتيك الرئاسي» لا يبدّل في الخياراتِ الاستراتيجية التي لا يحبّذ هؤلاء الخروجَ عنها في لحظةِ «انتعاشٍ» لمحور الممانعة وفي سياق إدراكهم لأهمية التحالف مع«حزب الله» لحفْظ مَقاعدهم النيابية.

«حصان طروادة البعض»

وتَعتبر الأوساط نفسها أن هجوم «حزب الله» العنيف على داعمي أزعور من المعارضة وتخوين بعضهم ووصْف وزير المال السابق بأنه «حصان طروادة البعض» (كما جاء في مقدمة نشرة أخبار تلفزيون «المنار») يشكّل مؤشراً إلى تعاطي الحزب مع هذا الترشيح الذي سيُختبر في جلسة الـ «لا» انتخاب في 14 الجاري على أنه معطى«فوق عادي» في سياق مواجهةٍ تدفع مركَبها من الخلف واشنطن عبر تلويحها بعصا العقوبات وبأنه قد لا يوفّر بري هذه المرة، ما يَشي بأن علاقةَ باسيل مع الحزب تزداد تباعداً، رغم رهانِ الأخير على أن«يعود» رئيس التيار الى «قواعده» بعد أن يجرّب حظّه في المقلب الآخَر ويخرج «خالي الوفاض»وعندها قد لا يعود مكان للـ deal الدسِم.

«احتماء باسيل بالأسد»

وبهذا المعنى، وضعتْ الأوساط زيارة عون في إطار محاولة «احتماء باسيل بالأسد» في «تمرّده»على خيار حزب الله الرئاسي والسعي إلى تغطية هذا التطور بوصْفه مربوطاً بمشكلة سحيقة مع بري - مع ما لدمشق من مآخذ على رئيس البرلمان - أكثر منها مع فرنجية و«حزب الله».

وفي بيان الرئاسة السورية عن زيارة عون، أن الرئيس الأسد أكد خلالها «أن قوة لبنان في استقراره السياسي والاقتصادي، وأن اللبنانيين قادرون على صنع هذا الاستقرار بالحوار والتوافق والأهم بالتمسك بالمبادئ وليس الرهان على التغيرات»، مشيراً أيضاً إلى «أن استقرار لبنان هو لصالح سورية والمنطقة عموماً».

وإذ قال الأسد «إنه كان للعماد عون دور في صون العلاقة الأخوية بين سورية ولبنان لما فيه خير البلدين»، عبّر عن ثقته «بقدرة اللبنانيين على تجاوز كل المشاكل والتحديات، وتكريس دور مؤسساتهم الوطنية والدستورية».

واعتبر أنه «لا يمكن لسورية ولبنان النظر لتحدياتهما بشكل منفصل عن بعضهما»، منوهاً إلى«أن التقارب العربي - العربي الذي حصل أخيراً وظهر في قمة جدة العربية سيترك أثره الإيجابي على سورية ولبنان».

بدوره،أكّد عون «أنّ اللبنانيين متمسكون بوحدتهم الوطنية على الرغم من كل شيء»، معتبراً «أن سورية تجاوزت المرحلة الصعبة والخطيرة بفضل وعي شعبها وإيمانه ببلده وجيشه وقيادته»، ولافتاً إلى «أن نهوض سورية وازدهارها سينعكس خيراً على لبنان واللبنانيين».

سيناريوهات جلسة الأربعاء

في موازاة ذلك، لم تهدأ عملياتُ المحاكاةِ لسيناريوهات جلسة الأربعاء المقبل الرئاسية، وسط جزم بأنها لن تُفْضي لانتخاب الرئيس 14 للبنان وبأنّ ثمة سعياً من المعارضة لأن ينال أزعور في دورتها الأولى قرابة 60 صوتاً أو أكثر بقليلٍ في ظل اتصالاتٍ لـ «حزب الله» وبري لضمان عدم حصوله على النصف زائد واحد (65 صوتاً) ما يجعله رئيساً مع وقف التنفيذ ولو تم تطيير نصاب الدورة الثانية وفق ما هو متوقَّع.

علماً أن الحزب يَمْضي في تحضير الأرضية لخياراته في الجلسة والتي يُرجّح أن تبدأ بعدم مغادرة الورقة البيضاء في الدورة الأولى بهدف حماية فرنجية وترشيحه وتمويه حجم الاعتراض عليه عبر «شبْكه» بالتصويت الأبيض للمتريّثين، وإن مع تصوير الأمر في إطار «تعزيز مناخ الحوار والتفاهم من أجل الاتفاق على رئيس».

ومع العدّ التنازلي لمحطة 14 يونيو تشهد الكواليس ورشة لقاءات بعيدة عن الأضواء لملاقاة أول جلسةٍ انتخابية منذ سبتمبر 2022 تخاض بمرشحيْن معلنَيْن رسمياً هما أزعور وفرنجية، باعتبار أن الأخير لم يكن الثنائي الشيعي أعلن تبنيه للرئاسة في الجولات الـ 11 السابقة وكان آخِرها في يناير الماضي، بينما كانت المعارضة رشّحت النائب ميشال معوض الذي أعلن الأحد انسحابَه لمصلحة ازعور.

في الأثناء، تتجه الأنظار إلى الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لمكافحة تنظيم «داعش» الذي تستضيفه الرياض غداً، وسط تقارير في بيروت لم تستبعد أن يُجري وزراء خارجية دول «مجموعة الخمس» حول لبنان (تضم الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، مصر وقطر) مشاوراتٍ على هامشه تتناول ملف الاستحقاق الرئاسي في لبنان.