هدأت المعركة نسبياً بين الجنراليْن، قائد الجيش وأعلى سلطة في السودان عبدالفتاح البرهان ونائبه وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» للسماح بإجلاء الأجانب والمدنيين الراغبين بالتوجه نحو مناطق أقل سخونة، أي نحو الحدود ونقاط الإجلاء. وكذلك سمحت الهدنة المتقطعة بإعادة تموضع المتحاربين والتخطيط للمعركة المقبلة وتحت جنح مبادرات التهدئة.

من هنا انحسرت المعركة نسبياً خلال أيامِ وقْف إطلاق النار بعد تدخل الدول الإقليمية والأجنبية والضغط على الجنرالين اللذين يتمتعان بعلاقاتٍ واسعة، فرضخا لعمليةِ إجلاء الأجانب المحاصَرين. إلا أن نشاط هذه الحرب سيزداد قوة لأن أفق الحلول مسدودة. أما السؤال المهم فيبقى: مَن سيدعم الحرب؟

كشفت الهدنة الإنسانية الموقتة حجمَ الكارثة الاجتماعية التي تعيشها البلاد بعد أقلّ من أسبوعين من بدء المعارك بين القوات المتحاربة على السلطة. ويتركز القتال في وسط العاصمة الخرطوم في شكلٍ أساسي، لِما تضمّه من مواقع مهمة كالقصر الرئاسي وقيادة الجيش المركزية ومطار الخرطوم الدولي.

ويعوّل الجنرالان على الحسم العسكري ليصل أحدهما إلى السلطة بعدما أفرزت الحربُ استحالةَ تَعايُشهما تحت قيادةٍ عسكرية موحدة.

وهذا من شأنه إما تقسيم السودان - الذي خسر الجزء الجنوبي منه عام 2011 - وإما مقتل أو سجن أحد الجنرالين بعد إضعاف القوى العسكرية السودانية وكذلك الدولة ومقدراتها العسكرية والمدنية من بنية تحتية وواقع اقتصادي هش.

وتقع على السلطات السودانية مسؤولية تأمينِ حاجات المدنيين أو على الأقل تقليل الآثار المترتّبة على الصراع ومحاولة تخفيف المعاناة.

إلا أن مسألة الحسم العسكري بين قوات الجنرالين - في عمليات الكر والفر خصوصاً داخل العاصمة - تبدو لغاية الآن خياراً صعباً للجيش الذي يملك أسلحةً مثل الطيران والمدفعية تتفوّق على قوات الدعم السريع الخفيفة الحركة في جميع مناطق السودان المختلفة ما عدا تلك المكتظة بكثافة سكنية مثل الخرطوم العاصمة (ومعها خرطوم بحري وأم درمان) حيث تدور معارك شوارع في المدينة التي يقطنها أكثر من ستة ملايين نسمة.

وهذا ما يمنع الجيش من استخدام كامل قوته العسكرية وقدراته التدميرية في الأمكنة ذات الاكتظاظ السكاني المدني.

وخلال ذلك، يحاول المدنيون الخروجَ من الخرطوم على الرغم من الارتفاع الجنوني لأسعار الطعام وفقدان المياه والكهرباء وتَضاعُف أسعار النقل من عشرة دولارات إلى أربعمئة دولار لعبور الحدود أياً كانت، في ظل إقفال المصارف وشح المال النقدي وندرة الوقود، ما عدا تواجده في السوق السوداء.

وتقول الأمم المتحدة ان 15 مليون سوداني بحاجة إلى دعم فوري، ما يؤكد أن المدنيين هم الضحايا الأكثر تألماً في حرب الصراع على السلطة.

ومما لا شك فيه أن البرهان اكتسب دعماً أكبر من الشعب السوداني الذي يقف مع السلطة الوطنية الشرعية أكثر مما ينحاز إلى قائد ميليشياتٍ لم تكن علاقته مع القوات المسلحة جيدة منذ أعوام.

وقد استمد حميدتي شرعيته من حاجة الدولة لقواته للقيام بأعمال حربية من ميليشيات غير نظامية أرادت سلطة الخرطوم منذ عهد عمر البشير، من خلال استخدام هذه الميليشيات، التنصل من مسؤوليتها عن أعمال قتل وسلب وتخريب ممتلكات السودانيين وخصوصاً في دارفور.

إلا أن ذلك لا يعني أن الشعب السوداني سيختار البرهان إذا فاز في المعركة التي لن يكون فيها أي منتصر في نهاية الأمر لِما يمكن أن تخلّفه من دمار للبلاد وللسودانيين، خصوصاً بعدما كان البرهان المسؤول عن الانقلاب على الحكومة المدنية برئاسة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قبل أقلّ من عامين.

وقد تدارَك البرهان تَعاظُمَ قوة حميدتي الذي رفض قرار الاندماج في الجيش خلال عامين كأقصى حد، على وقع ضغط المجموعة الغربية - العربية وعلى رأسها أميركا وبريطانيا من أجل فرض «الديموقراطية الغربية» في السودان من خلال «اتفاق الإطار»، وذلك بعدما اقترح قائد قوة الدعم السريع ونائب البرهان مدة عشر سنوات للتخلي عن سلطته وبدأ في الوقت عينه التحضير للمواجهة الكبرى.

ويُعتبر اليوم «اتفاق الإطار» غير صالح بعدما أعلن كل من الجنرالين عزمهما وقف القتال فقط بعد قتل أو سجن الغريم الآخَر. وتالياً فإن أي اتفاق لوقف الأعمال العدائية لن يصمد طويلاً، وهذا يعني أن أياماً عصيبة تنتظر السودان خصوصاً أن مقدرات الجيش بيد البرهان.

أما حميدتي فهو يقود أكثر من 50000 رجل ولديه المال من حروبه السابقة داخل البلاد وخارجها ومناجم الذهب والتهريب عبر الحدود.

إلا أن كليهما يحتاج للذخيرة لأن أي معركة تتطلب دعماً لوجستياً مستمراً وتدفق السلاح والذخائر إذا استمرت الحرب طويلاً. ومن هنا فإن استمرار المعارك لأشهر أو سنوات غير ممكن إلا بتدخل خارجي داعم عسكرياً للطرفين أو لطرف ضد آخر. ويبقى السؤال: مَن هي الدولة أو الدول التي ستدعم المتقاتلين؟

اعتُبر إعلان الصحف الأميركية عن وجود قوات فاغنر الروسية في السودان إشارةً إلى أنها تريد زج اسم روسيا في ما يحدث في السودان.

ومنذ أيام قليلة، كُشف النقاب عن وجود مختبرات بيولوجية من الممكن أن تشكل خطراً كبيراً إذا وقعت في أيدي الميليشيات.

أما الخبر الأخير فكان الكشف عن نيات أميركية بإرسال قوات إلى السودان لحماية الأميركيين، وان واشنطن مازالت تدرس الأمر، بينما تملك الولايات المتحدة سفارة هي من أضخم المواقع الديبلوماسية في العالم.

ومن المعلوم أن قوات فاغنر أتت إلى السودان بطلب من الحكومة السودانية لتدرّب الجيش وقواته وحماية مناجم الذهب بناءً لطلب القوات العسكرية في البلاد. إلا ان هذه القوات الخاصة غادرت قبل أكثر من عام، وتالياً فإن وجودها لم يعد مطروحاً. وكذلك كان الرئيس عمر البشير وقّع على بناء قاعدة بحرية في السودان والتزم بالاتفاق كلٌّ من البرهان وحميدتي.

وتالياً فإن ذلك من شأنه دفْع أميركا لوضع اليد على السودان في محاولةٍ لمنْع روسيا من الحصول على موقع قدم عسكري ثابت على البحر الأحمر بعد البحر الأبيض المتوسط (سورية).

ومن هنا فإن واشنطن ترى أن لديها فرصة للتدخل في بوابة أفريقيا التي بدأت تُنَوِّعُ علاقاتها مع روسيا والصين وأصبحت القارة السمراء محور تنافس بين الدول العظمى وموقع قدم لها.

لا يمكن لأحد التنبوء بما سيحدث في الأسابيع المقبلة ولمَن ستكون الغلبة وكيف ستتدحرج الأمور لتستدعي التدخل الخارجي الأحادي أو المتعدد، أو كيف ستمتدّ إلى الدول السبع المجاورة للسودان والتي تخشى استمرار تدفق آلاف اللاجئين إليها وهي تدرس إمكان إغلاق الحدود.

إلا أن جميع التقديرات تشير إلى أن الوضع يتجه نحو الأسوأ وان سحب عشرات الآلاف من الأجانب سيعطي الحرية للجنرالين لخوض معركة أكثر شراسة وعنفاً إذا فشلت مساعي السلام.

وأعلنت الأمم المتحدة عن عدم تمكنها من فرض الاستقرار لأنها لا تملك أي قوة فعلية على المتحاربين.

وقالت أميركا ان فريقها في الأمن القومي يُجْري مباحثات مع أطراف النزاع وانها طلبت من إسرائيل التدخل لتقول بصوت خافت أنها تنتظر من الآخَرين في دول الشرق الأوسط المبادرة لحل الأزمة في السودان، ليزداد التأكد من أنها لم تعد تملك قدرة المبادرة أو فرض السلام، لانشغال إدارة بايدن بحرب أكبر مع روسيا في أوكرانيا وبعدما بدأت هيمنتها الدولية تتلقى الضربات الموجعة.

من الصعب جداً أن تبقى الدول متفرجة على ما يحدث في السودان دون التدخل إذا طال أمد المعركة. وإذا حصل ذلك، فإن حرباً بالوكالة لابد أن تدفع الأمور نحو الأسوأ، ما دام الجنرالان مصمميْن على إنهاء أحدهما للآخر، بينما ما يحصدانه هو بلد أكثر فقراً واقتصاد مدمّر وعدد كبير من المدنيين القتلى في دولة مُنْتِجة للنفط وتملك موارد طبيعية غنية وأكثر الأراضي الزراعية الخصبة، ولكن، في الوقت عينه... ديوناً هائلة واستقراراً هشاً.