لم تخالف الحكومة اللبنانية الترقّبات التي أفصح عنها مسؤولٌ اقتصادي ونشرتْها «الراي» خلال الأسبوع الحالي (الاثنين الماضي)، وأَقَرَّتْ بالفعل رفْعَ مضاعفات أساس رواتب العاملين في القطاع العام إلى 7 عوضاً عن 3 القائمة حالياً، والعسكريين الى 6 نظير استفادتهم السارية من منحةٍ خارجية طارئة بمعدل 100 دولار شهرياً، من دون أن تغفل بالتوازي إقرار زيادة الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص إلى 9 ملايين ليرة شهرياً.

وبالمثل، لم تفلح الحكومة في تحديد مصادر وافية لتمويل هذه الزيادات على الرواتب، والمعزَّزة بمضاعفاتٍ في بدلات النقل والمساعدات الاجتماعية والصحية، فيما رشح أنها ستضاعف في المقابل السعر المعتمد للرسوم الجمركية على المستوردات الخاضعة، من مستوى 45 ألف ليرة الساري منذ أسابيع قليلة فقط الى 60 ألفاً، ثم تحريره بالكامل ليصير موازياً لسعر الدولار المعتمَد على منصة «صيرفة» التي يديرها البنك المركزي (حالياً بحدود 87 ألف ليرة) فضلاً عن إقرار زياداتٍ على إشغال الأملاك العامة البحرية.

هكذا، تصرّ الحكومة على «استنساخ» الآليات المجرَّبة والتي أوصلت الى الفشل المشهود، رغم إدراكها المسبَق لانعدام موارد الخزينة المكافئة لـ «كرم» الزيادات، مستهدِفةً، وفق رأي المسؤول عيْنه، اغراء الموظفين للعودة إلى العمل عبر «وهم» تصحيح «ما أمكن» من الخلل الكبير بين مَداخيل موظفي القطاع العام والارتفاعات الحادة للغاية في متوسطات أكلاف المعيشة، والمترجَمة في أحدث مؤشراتها بارتفاع متوسط الغلاء بنسبة قاربت 200 في المئة خلال الأشهر الستة السابقة وحدها، بينما تعدّى المؤشر التراكمي حاجز ثلاثة آلاف في المئة منذ انفجار الأزمة المالية خريف 2019.

وبمعزل عن الاستنتاج الموضوعي والعلمي بأن تكرار التجارب بالمضامين والوسائل ذاتها، لا يمكن أن يفضي بتاتاً إلى نتائج مختلفة، يستغرب المسؤول خفوتَ الحِراك السياسي والاقتصادي والنقابي وحتى «الشعبوي» في مواجهة الإمعان بسلوكيات الانحرافات المشهودة في الأداء المالي، وما يولّده من تداعياتٍ كارثية على اقتصاد البلد وقطاعاته ومجتمعه.

ففي الأبعاد غير الخفيّة على أحد من المراقبين في الداخل والخارج، تضرب السلطة مجدداً عرضَ الحائط بتعهداتها بأن تنتهي من صوغ خطة الانقاذ والتعافي المتكاملة، وتطيح بالتقارير الدولية التي تركز على أولوية تصحيح الانحرافات المالية. بل هي تدير «الأذن الطرشاء» للدروس التي يحاضر فيها أصحاب القرار في الدولة عن الأزمة الحاضرة وخلفياتها، وعلى وجه الخصوص التباري في التوصيف الأسوأ للقرارات المطابقة لقرارها الأحدث، وفي الطليعة «مكرمات» الدولة في إقرار سلسلة الرتب والرواتب خريف العام 2017، بما حفلت به من اتهامات بالتضليل «المتعمّد» لحجم الأكلاف المترتبة على المالية العامة بغية ربح استحقاق انتخابات نيابية (انتخابات 2018)، فيما غرق البلد لاحقاً بأسوأ الأزمات المالية والنقدية المستمرة في هدم ركائز القطاع المالي وإفقار الناس.

وفي البُعد المالي، فإن الحكومةَ العاجزة عن ضخ إنفاقٍ «إنقاذي» - لا يمكن الاستمرار بتحاشيه والتحايل على موجباته - في قطاعات الصحة والاستشفاء والأدوية والتعليم ودعم البلديات وعن زيادة ساعات التغذية بالكهرباء وحتى «ترقيع» طرق رئيسية، لم تفصح كيف ستؤمن التمويل بالأرقام وبالمصادر ولا حددت المدى الزمني للعمل ببرنامج دعم الرواتب العامة.

في حين أن أرقام أداء الموازنة للأشهر المنقضية من السنة الحالية لا تزال قيد «المجهول» ريثما تنشرها وزارة المال، علما أن الإنفاق فيها يجري وفق القاعدة الأثني عشرية طبقاً لموازنة العام السابق، وهي لا تحتمل حُكْماً مضاعفاتٍ طارئة على البند الأساسي للمصروفات.

وينطبق الغموضُ غير البنّاء ذاته على البُعد النقدي الغارق بأزمات تشكيلات أسعار الصرف وشبه جفاف موارد العملات الصعبة المتاحة للبنك المركزي. فالقرار ينحو إلى اعتماد السعر الساري للدولار على منصة صيرفة، أي ما يساوي 87 الف ليرة لكل دولار حالياً. فهل بمقدور مصرف لبنان التزام المبالغ المترتّبة التي قد تربو على 75 مليون دولار شهرياً، وإلى أي مدى زمني ايضاً.

مع الإشارة إلى أن ثمة معلومات تتردّد عن مصارحة حاكم المركزي رياض سلامة للمعنيين، وبينهم النقابات المهنية للإدارات العامة، بأن تعهداته الحاضرة تنحصر في فترة ولايته القانونية التي تنتهي في يوليو المقبل.

وهل من خيارات بديلة؟ يستعين المسؤول بتصوراتِ الحكومة المنصوص عنها في «مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية» الممهِّدة لمندرجات خطة التعافي والتي بلغت أروقة المجلس النيابي «خلسة»، قبل أن تصبح «لقيطةً» تنتظر مَن يخرجها مِن نفق المفاوضات العقيمة مع بعثة صندوق النقد الدولي، والتي تكاد بدورها أن تشهر «الخيبة التامة» في إدارة الملف اللبناني بعيد انقضاء السنة الأولى على توقيع الاتفاق الأولي، والمعزَّز بتعهدات رسمية على أعلى المستويات لاقت «التسويف والتهرّب» لاحقاً، ولا سيما لجهة التزام مساره وشروطه الاجرائية والتشريعية خلال أشهر قليلة.

فوفق المطالعة الحكومية التبريرية لإدارة الصندوق، والتي تتناقض تماماً مع السلوكيات القائمة والمعالجات الجزئية التي تتجنّب قصداً اعتمادَ خيارات شفافة ومتكاملة، يَرِدُ في النص: «هناك ضرورة لزيادة الرواتب عن طريق تخصيص المنح الاجتماعية لاستئناف الخدمات العامة التي كانت على وشك الانهيار رغم أن ذلك الإجراء لم يقطع شوطاً طويلاً في درء التدهور الحاد في رواتب القطاع العام. وستركز جهودنا المتعلقة بالإيرادات على إعادة بناء قدرة تحصيل الضرائب ورسوم الجمارك من خلال تعزيز الإدارة وتحسين الامتثال الضريبي. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تقييم التعرفة الجمركية على الواردات بسعر الصرف الرسمي الموحّد الجديد وسنضيف عدة رسوم أخرى. يُغَطّى العجز المستهدَف في موازنة الدولة من التمويل المتاح خارجياً، وسنبتعد عن التمويل المحلي نظراً لمَواطن الضعف الحالية وهشاشة القطاع المصرفي».

ايضاً، استكملت الحكومة علامة «النضج» والمسؤولية في تحديد الهدف الأساسي لخطة الإصلاح، والمتمثل في تعزيز النمو الاقتصادي، واستحداث الوظائف ولا سيما للشباب اللبناني الوافد إلى سوق العمل، ومن ثم خفض معدلات الفقر، وتحسين مستوى المعيشة وتوفير الخدمات الأساسية للسكان في قطاعات الصحة والتعليم، والطاقة على أن تكون هذه القطاعات على رأس الأولويات الحكومية. ثم استدركت من دون إظهار أي جهد أو تكبُّد عناء الخطوات الأولى بأنه «ينبغي أن يهيئ برنامج التصحيح الاقتصادي البيئة الملائمة التي تُشَجِّع القطاعَ الخاص على الاستثمار وتساهم في ازدهاره، وتساعد على تسريع وتيرة النمو. وانطلاقاً من هذا التوجه، ستعمل الحكومة على تحسين بيئة الأعمال، وتؤمن فرصاً متكافئة لتحفيز الاستثمار».