طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً بدعوى إنشاء مذهب إسلامي جديد يتماشى مع متطلبات الحياة العصرية ويلاحق المستجدات ليسابق الحضارة الغربية، مع نبذ الأصول وزعزعة الثوابت والقواعد والسياج الذي يحيط بالفقه الإسلامي قديماً وحديثاً، وإعادة النظر بعلم الإسناد الذي ثبت عند صاحب هذا المذهب عدم صلاحيته اليوم؟ ولكي يتكلّم في الإسلام كل مَن هب ودب!

فهل هذا الطلب مشروع؟

وما هو الاجتهاد الذي أراده الإسلام؟

وللجواب عن هذا السؤال سنأخذ جولة سريعة لنعرف الفرق بين الماضي والحاضر والصواب والخطأ.

في القرن الرابع الهجري، الموافق للقرن السادس الميلادي تقريباً وما بعده بقليل ران على العالم الإسلامي غاشية الجمود والتقليد، فانحسر الفقه الإسلامي عن واقع الحياة وقصُرت الهِمم وانقطع الفقهاء عن العِلم اجتهاداً وتقليداً، وتواكلوا في كل شيء من عظائم الأمور وصغارها، وشاع الكذب وقلّ الاعتماد على النفس ونقص العلم بموت العلماء وظهور الجهلاء وقلّ مَنْ يثق بنفسه أو يستحق الثقة من غيره، وندر مَنْ يتقدم لرفع راية الاجتهاد الذي جاءت به الشريعة وحث عليه الإسلام، وجرت أحوال الحياة جميعاً في بلاط الحُكم الملكي وفي المحاكم والسياسات العامة على التقليد والجمود، ولم يبال الناس ما خالف الولاة وما وافقوا من واجبات الدين أو سُنن العُرف المعتبر والأثر المأثور من حياة السلف الصالح.

وتتابعت الغفلات وعمت الشهوات وزاد الترف وعمّ الكسل وتطاول الزمان بعد هذه الفترة نحو أربعة قرون أخرى، فتتابعت فيها الضربات والقوارع وفق السُنن الإلهية على الدويلات الإسلامية ودويلات الطوائف من غارات الحروب الصليبية التي بدأت 670 هجرية، وهي حملات دينية تحت شعار الصليب قام بها الأوروبيون - الجياع - نهشت لحوم المسلمين وزادتهم وهناً على وهن حتى استيقظوا على قارعة سقوط بغداد حاضرة الدولة العباسية وعاصمة الخلافة الإسلامية يوم 9 صفر 656 هجرية الموافق 10 فبراير 1258 ميلادية، بقيادة هولاكو الذي دكّ معالم الحضارة الإسلامية وأحرق كتبها، فانتشرت الأوبئة والأمراض وفرّ مَنْ فرّ من العلماء إلى خارج البلاد وكثُر السلب والنهب، وبقي الناس بعد أن مضى عليهم أربعون يوما مختبئين في الأقنية والمجاري تحت الأرض، ولما نودي ببغداد بالأمان خرج كل مَنْ كان تحت الأرض بالمطامير كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، ولما تقابلوا على وجه الأرض بلغ بهم من هول الصدمة وخوفهم أن أنكروا بعضهم بعضاً، فلم يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه... وظلوا على هذه الحال لا يستطيعون حِيلةً في الأرض ولا يهتدون سبيلاً... حتى أدركوا نهاية مِحنتهم فبادروا إلى دفن الموتى المتناثرين، وطهّروا الطرق من بقايا الجثث، وفتحوا الأسواق من جديد.

وبعد هذا السُبات الطويل انبعثت بقايا الحياة من جديد التي كمنت في سرائرها من وحي عقيدة التوحيد، فنبغ من كل أمة منها رهط من القادة الغيورين يجاهدون ويجتهدون ويعودون بها كما بدأ الإسلام إلى حظيرة الدين... وتعلّم المسلمون من عهود الخمول والنكسة دروساً كالتي تعلّموها من عهود العزة والتقدم فحواها من طرفيها المتناقضين وهما (أن العجز عن الاجتهاد والعجز عن الحياة مقترنان وأن المسلمين يحتفظون بمكانتهم بين أمم العالم ما احتفظوا بفريضة العلم والاجتهاد والتفكير).

برز من القادة المسلمين السلطان المظفر سيف الدين قطز، الذي حكم مصر - حرسها الله - عاماً واحداً أوقف فيه الزحف المغولي القادم من الشرق في معركة عين جالوت بفلسطين في 25 رمضان 658 هجرية الموافق 1260 ميلادية، حيث أعاد فيها هيبة الإسلام والمسلمين، وفرّ المغول ونكصوا على أعقابهم إلى ديارهم راجعين... كما برز بالوقت نفسه من علماء المسلمين الربانيين تقي الدين أبوالعباس أحمد بن عبدالحليم، المشهور بابن تيمية، المولود في تركيا عام 1263 الذي حارب التقليد والجمود وفتح باب الاجتهاد، فأحيا من الدين ما كان مندثراً وأظهر من السُنن ما كان خافياً، فاستنارت الأرض وأشرقت بنور ربها فأحيا الفقه الإسلامي من جديد وفتح باب الاجتهاد لمن استكمل آلته ... بلا فوضى وهذا هو الاجتهاد الذي نريده.