عند بدايةِ الحرب الروسية - الأميركية على الأراضي الأوكرانية، أشارت الدلائل جميعها إلى أن الولايات المتحدة هي الرابح الأكبر من هذه الحرب.

فقد استطاعتْ جمْعَ أوروبا الشرقية والغربية تحت عباءتها وأعادتْ الحياة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأدخلتْ روسيا في معركة استنزافية طويلة أرادتْ فيها كسْر إرادتها واقتصادها، بحيث إن أميركا لا تخسر أي جندي بل تحارب أوكرانيا دفاعاً عن هيمنتها الأحادية وسط استعداداً لتقديم مئات الآلاف من الأوكرانيين لإبقاء «أميركا أولاً» وكي يقطف الغرب نتائج المعركة وثروات روسيا الطبيعية.

إلا ان الأمور انقلبت اليوم وذهبت في اتجاهٍ مختلف تماماً لم يتوقّعه ولا يشتهيه الغرب، ليس فقط لجهة صمود روسيا الذي خلط الأوراق، بل أيضاً لناحية أن واشنطن بقيت مسيطرة على حلف مسلوب الإرادة، هشّ داخلياً وأضعف من أي وقت.

لم تَعُدْ أوروبا تتمتع بالقوة والاستقلالية، كما كانت قبل الحرب الدائرة في القارة بين روسيا وأميركا في أوكرانيا. فقد انضمّت فنلندا المُحايِدة إلى حلف الناتو لتتوسّع الجبهة الغربية المُعادية لروسيا لآلاف الكليومترات على حدودها الغربية.

وهذا ما تَسَبَّبَ بعودة سباق التسلح الذي تجلّى بقرار روسيا تخزين قوة نووية صاروخية في بيلاروسيا في خطوةِ تحدٍّ للغرب مجتمعاً.

وأعلنت ألمانيا أنها بدأت بتشكيل جيش متطوّر وصناعة أسلحة متقدمة تتماشى مع الحروب المُعاصِرة.

وقد رصدت لهذه الخطوة ما مجموعه 200 مليار يورو، كخطوةٍ على طريق التسلح الأوروبي الذي عاش فترة ذهبية منذ الحرب العالمية الثانية، تخلّلتْها حرب البوسنة والهرسك في التسعينات والتي لم تغيّر السياسة الأوروبية كما هي الحال اليوم.

وفقدتْ أوروبا الغربية - لأن غالبية دول أوروبا الشرقية تنوء تحت الحكم الأميركي منذ زمن بعيد - حيادَها وقوّتَها ولم تعد تتخذ القرارات التي تصبّ في مصلحة شعوبها واقتصادها. وهذا ما أَضْعفها كثيراً أمام أميركا والعالم. إلا أن أحوالَ الغرب أصبحت مختلفة كلياً عما كانت عليه قبل الحرب الأوكرانية.

وجاء إعلان المستشار الألماني أولاف شولتس عن قرارات متضاربة منذ فبراير من العام الماضي بمثابة إشارةٍ إلى ضعْف قيادته وعدم أهليتها لمواجهة النفوذ الأميركي.

وكان شولتس أعلن مع بداية الحرب أنه لا يمكن لبلاده الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية وان العلاقة مع موسكو مهمة ومتوازنة. وكذلك أكد انه لن يمدّ أوكرانيا بالسلاح ولا بدبابات «ليوبارد - 2».

إلا ان تنازلاته بدأت تظهر تدريجياً عندما اتخذ البيت الأبيض - وليس برلين - القرار بوقف خط «نورد ستريم -2» الذي تَعَرَّضَ لعمليةٍ تخريبية لاحقاً من دون ان يصدر عن ألمانيا أي اعتراض أو موقف سياسي واضح أو مطلب بإشراك الدول المستثمرة في هذا الخط بالتحقيق، وذلك لتجنُّب الوصول إلى «حقيقة مزعجة»، كما صرّح بعض المسؤولين الاوروبيين.

وكذلك رضخت ألمانيا بإرسال دباباتها - التي لن تغيّر بمسار المعركة الشرسة الدائرة في أوكرانيا - على الرغم من رفْضها السابق.

بل ان الدعم الألماني لأوكرانيا يهدف فقط، وكذلك تفجير خط «نورد ستريم»، لقطع جسور العودة بين روسيا وأوروبا لتقول أميركا إن كلمتها هي العليا وأنها هي التي تدير قواعد الاشتباك والحرب والسلم.

وكانت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل حافظت على علاقة جيدة مع أميركا ولكنها انتقدتْها في ما يتعلق بسياستها الخارجية. وهذا ما لم يفعله شولتس منذ تسلُّمه الحكم في يونيو عام 2021.

وتمثّل ألمانيا وفرنسا القوة السياسية والعسكرية والصناعية الأولى في أوروبا.

وكان موقف ميركل في شأن «نورد ستريم - 2» داعماً في شكل عام بحجة أنه مهمّ لأمن الطاقة وسيوفر مصدراً موثوقاً للغاز الطبيعي بسعر منخفض ما يُعزّز الصناعة الألمانية ويوفّر سعراً رخيصاً للاستخدام المحلي.

وأقرّت بمخاوف الدول الأوروبية الأخرى حينها وسَعَتْ إلى معالجتها من خلال تدابير مختلفة مثل إنشاء آلية لضمان استمرار عبور الغاز عبر أوكرانيا بعد اكتمال «نورد ستريم - 2».

وهذا ما تَسَبَّبَ بتصادم مع سياسة الرئيس دونالد ترامب الذي فَرَضَ عقوباتٍ على الشركات الألمانية المُشارِكة في بناء خط الأنابيب بحجة أنه سيزيد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي ويقوّض الأمن الأوروبي ويجلب الثروة لروسيا.

واتّهم ترامب، ميركل بعدم دفع نصيبها من أجل الدفاع عن الناتو الذي ضعف كثيراً في حينها.

ونشأت فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي الأميركي على اتصالات القادة الأجانب، بما فيها ميركل التي رفضت هذا التجسس الذي أحدث شقاقاً كبيراً في العلاقات الأميركية – الألمانية.

وانتقدت ميركل السياسة الأميركية في ما يتعلق بقضايا المناخ والتجارة الحرة واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. وكذلك انتقدت النهج الأميركي تجاه إيران والانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018.

أما فرنسا، فلديها تحالف طويل وعلاقة وثيقة مع أميركا، إلا أن الرؤساء الفرنسيين اتبعوا سياسةً خارجيةً مستقلة عما هي الحال اليوم.

فأثناء الحرب الباردة، انتقد الرئيس شارل ديغول (1959 - 1969) جوانبَ متعددّة من السياسة الخارجية الأميركية.

وفي 1966 انسحب من حلف الناتو وطلب من جميع القوات العسكرية مغادرة الأراضي الفرنسية، وأعلن أن مصالح فرنسا لا تتوافق دائماً مع المصالح الأميركية الشديدة العدوانية في سياستها الخارجية.

كذلك انتقد الرئيس فرنسوا ميتران (1981 - 1995) تدخل واشنطن في أميركا الوسطى والخليج وسياستها تجاه الشرق الأوسط وارتباطها الشديد بإسرائيل.

وصرّح علناً بأن «فرنسا لا تعرف ذلك ولكننا في حرب مع أميركا. نعم، حرب دائمة، حيوية، إقتصادية».

وكان الرئيس جاك شيراك من أشدّ المعارضين للغزو الأميركي للعراق عام 2003 ورَفَضَ إرسال قوات فرنسية، ما أَحْدَثَ توتراً في العلاقات.

إلا ان الرئيس إيمانويل ماكرون يبدو غير مهتمّ بمواجهة السياسة الأميركية المُهَيْمِنة على أوروبا.

وتالياً فإنه يتعرّض لضربات عدة داخلية عنوانها رفْع سنة التقاعد من 62 - 64 ولكنها تتمحور ضمناً حول غلاء المعيشة والانهيار لقيمة اليورو الشرائية والتضخّم المالي.

نعم ضعفت أوروبا وستضعف أكثر بعد إقرار أميركا قانون خفض التضخم (IRA) الذي يجذب الشركات الصناعية الأوروبية ويدفع لهجرتها لنقص الغاز في أوروبا وارتفاع أسعاره التي أصبحت تعتمد على الطاقة الأميركية بالدرجة الأولى، بينما كانت القارة الأوروبية تعتمد على الطاقة الروسية، ولكن بأسعار أكثر ارتفاعاً وأقلّ جودة.

وبعد توسُّع طلبات دول عدة للانضمام إلى «البريكس» - الذي يمثل أكثر من 40 في المئة من سكان العالم - ورفض 70 في المئة من دول العالم فرْض عقوبات على روسيا والتضامن الاقتصادي وتنوُّع مصادر الطاقة وتَبادُلها بين روسيا والصين وإيران والسعودية، وقرار هذه الدول بالعمل على التخلي تدريجاً عن الدولار واليورو، بدأ الغرب يضعف أكثر بكثير مما كان عليه العام الماضي.

وسيأتي يومٌ، كما يخشى أعضاء من الكونغرس الأميركي، لا تصبح العقوبات مؤثّرة على الدول الرافضة لهيمنة الولايات المتحدة.

ولم يعد تحدّي أميركا أو عدم السير بسياستها موقفاً غريباً، لتعدُّد القرارات الدولية والشرق أوسطية والافريقية التي لا تنسجم مع مصلحة واشنطن التي حكمت العالم وفرضت سياستها لعقود طويلة.

وبقي لأميركا عملتها التي بدأت تتلقى الضربات وأوروبا الفاقدة لسلطتها وهيبتها واستقلاليتها، لتصبح سلّة أميركا في هذه الحرب الدائرة ضعيفة المضمون وتحتوي على تكتل واهن ينذر بانشقاقات جديدة عندما تضع الحرب أوزارَها.