حديث الصّراحة المُطلقة هو ما نُبحر به اليوم وسط أمواج من الأزمات سبقتها أمواج وستلحقها أمواج. وأيّ عاقل يعتقد أن الحلول التي نشهدها يمكن أن تُؤدّي إلى نتائج ثابتة فهو واهم أو... أسير التمنّيات.

الكويتيّون، في مُختلف توجّهاتهم يعيشون حالة قلق حقيقيّة على الحاضر والمستقبل، يتساوى في ذلك المُوظّف العادي ورجل الأعمال. ربّة المنزل والأستاذة الجامعيّة. المُسيّس وغير المُسيّس. الباحث عن عمل والمُتقاعد. الجميع بلا استثناء مسكونون بهواجس الخوف على الغد وكيف سيكون، ويعيشون حالة تذمّر من حاضر محكوم بالشّلل على مُختلف المُستويات. وعلى رغم أنّنا والحمد لله في بلد يعيش وفرة مالية والغالبيّة العظمى من أبنائه إمّا مُوظفي دولة وإما مُتقاعدين أي يضمنون حدّاً معقولاً من الدخل... إلّا أنّ القلق يستمرّ، وكذلك يستمرّ تراجع الكويت في المُقارنات بين وضعها وأوضاع دول خليجيّة شقيقة.

هذا ما نحن عليه بكل وضوح، وهذا ما يستوجب التغيير من باب الضرورة المُطلقة. قد يخرج «مزايدون» كالعادة يحاولون تجميل الصورة ويتّهمون الباحثين عن آفاق للمشاكل بأنهم يزرعون اليأس والإحباط. وقد يخرج صوت نيابي أو حكومي للقول إن المشكلة عند الطرف الآخر ويفتح الدفاتر القديمة ويعطي المسألة أبعاداً تاريخيّة فيما الجميع يتطلّع إلى المُستقبل... وقد تخرج، بالطبع، «الأبواق» المعروفة والمدفوعة للهُجوم والطعن بأسلوبها المُنحطّ وهو أمر تعوّدنا عليه ويعكس مُستوى أصحابها ومن كلّفهم.

... ومع ذلك نُكرّر، القلق يستمرّ، والمقارنات لم تعد في مصلحتنا.

تحصل انتخابات، يتشكّل مجلس الأمة، تتعيّن حكومة، تتصادم السلطتان، يتغيّر وزراء، تتغيّر الحكومة، يُحلّ المجلس أو تنتهي ولايته. تحصل انتخابات يتشكّل مجلس جديد وحكومة جديدة، ونعود إلى «المسلسل التاريخي» دائرين في حلقة لا تنتهي. هذا ما نحن عليه ولن يُغيّر من الصورة شيئاً استحضار الأدبيّات السياسيّة المُصاحبة لكل أزمة سواء ما يبني النواب حُجَجَهم عليه أو ما تتذرّع به الحكومة... النتيجة الوحيدة مُنذ عقود هي تعطّل قطارات التنمية في محطّات بدأ الصدأ يأكل مرافقها.

اليوم، نحن في مرحلة إعادة تشكيل حكومة، يُرافقها هدير أصوات نيابية مُعتادة حول توزير فلان وبقاء فلان وشروط التعاون. بل سمعنا عن استجوابات تتحضّر لحكومة لم تتشكّل، وهذه لم يسبقنا إليها أحد حتى في أعتى الدول الديموقراطية. المُهمّ أن التوقّعات ستكون كما ما قبل استقالة الحكومة وكما ما قبل المجلس الحالي والمجالس التي سبقته. ولذلك فالصّراحة تقتضي مخاطبة وليّ الأمر للقول إن كل ما يجري عمليّاً هو مُسكّنات في جسد سياسي وإداري يحتاج إلى جراحة وعلاجات جِذريّة.

عندما نقول إن الدائرة تبدأ بحصول انتخابات وتشكيل مجلسي الأمة والوزراء يجب أن نتوقّف عند الكلمة الأولى: «الانتخابات». هنا يكمن مُفتاح السرّ بل المُشكلة. لن تستقيم الحياة السياسية طالما أن النظام الانتخابي الكويتي قائم على الفرديّة وليس على اللوائح والبرامج الوطنية الجامعة. هذا النظام تأصّل في العمليّة الانتخابيّة لدرجة احتلاله ليس عقل المُرشّح فحسب بل الناخب أيضاً. من يصل إلى البرلمان رغم أنّه يُفترض أن يُمثّل الأمّة إلّا أنّه لا يُمثّل إلّا دائرته الضيّقة ومنطقه أن الخروج من هذه الدائرة لن يُوصّله مُجدّداً إلى الكرسي الأخضر، وحتى الوزراء النواب تجاربهم كانت كارثيّة بحيث عملوا على إرضاء أبناء دائرتهم وأهملوا وزاراتهم ويشهد التاريخ أنّهم كانوا الأسوأ أداءً حكوميّاً.

ماذا حصدنا؟ حالة انفصام سياسيّة وشخصيّة بامتياز. نائب يُهدّد وزيراً بالاستجواب بشعار وطني ومال عام ومُحاربة الفساد أمّا المضمون فهو رفض تعيين أقارب أو أبناء الدائرة في مناصب. ولطالما انتهت استجوابات أو حُذفت بتسويات تمّت خفيّة بين المجلسين. وحصدنا من باب الانفصام أيضاً، نُوّاباً يمضون السنوات الأربع يحتجّون على أيّ خطاب انقسامي وهم في تجمّعاتهم الانتخابية يعلون اللغة المذهبيّة والطائفيّة بل يتبارون في خلق إشكالات تُهدّد الاستقرار فقط من أجل صوت إضافي. وبالتبعيّة، شاركت الحكومة أيضاً في الانفصام فقدّمت خطابات أمام المجلس تتضمّن برامج ومشاريع شبيهة بما تُقدّمه حكومة النرويج فيما الوزراء المُتعاقبون إمّا يخضعون لنائب وإمّا يُسرّبون أخباراً عن وزير زميل لنائب آخر للحصول على الرّضا وإمّا يجنحون إلى الشّعبويّة وعينهم على خوض انتخابات. وتحوّل الانفصام الثنائي إلى ثلاثي وفق المُعادلة التالية: وزير يخاف من نائب ونائب يخاف من ناخبيه... والسّلام، كلّ السّلام، على المُؤسّسات والتطوّر والتنمية.

هل نُبالغ؟ إذا كانت الإجابة لا، فعمليّاً كل ما يعمل عليه من حلول إنّما هو عبارة عن ترقيع ومُسكّنات، وسنرى في المشهد المُقبل استقالات مُكرّرة وتغييراً لحكومات وانتخابات جديدة. المُسكّنات مفعولها قصير ولا بدّ من ثورة تطويريّة بالشراكة بين النظام والناس للإتيان بنظامٍ انتخابي جديد كُليّاً وبالتالي إعادة إنتاج حياة سياسيّة أكثر استقراراً.

والنظام الانتخابي الجديد يجب أن يبنى على قاعدة اللوائح الوطنيّة والبرامج المُتخطّية للاعتبارات القبليّة والطائفيّة والمناطقيّة الضيّقة. هذه القاعدة تلغي النظام الفردي عن بِكرة أبيه وتخلق آليات تحديثيّة من بينها كما ذكرنا مراراً قيام مجلسين على غرار ما هو معمول به في أعرق ديموقراطيات العالم. هذا النظام سينتج غالبية مُلزمة أمام الناخبين على تنفيذ مشروعها، ويفرض على الحكومة الخروج من الإطار المحدود في التعامل مع البرلمان إلى الرحاب الوطني الأعم ويُجبرها على التوجّه فقط إلى المسار التنموي والإنجاز الاقتصادي.

ويا وليّ الأمر. نقولها من قلب مُحبّ شجّعه فتح قلبكم قبل بابكم للكلمة الطيّبة المُخلصة، أمامكم تجربة تتكرّر من عقود وأمامكم نتائجها. التطوّر سُنّة الحياة وتشخيص المُشكلة بدقّة يُوفّر الوقت والجهد للحلّ. الجميع معكم والناس تريد الخروج من دائرة الجمود والأزمات السياسيّة إلى مساحات التنمية والاستقرار. الأمر بِيدِكُم من قبل ومن بعد... اللهمّ إنّا نسألك الثّبات في الأمر والعزيمة على الرّشد.