بدا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 أن ثمة نظاماً دولياً جديداً في طور التشكيل حيث تراجع ملحوظ للهيمنة الغربية وللولايات المتحدة تحديداً، لقاء تحوّل اقتصادي وسياسي واضح لصالح آسيا والصين خاصة.

ويُقصد بالنظام الدولي، النظام الفوقي الحاكم لسلوك وتفاعلات الدول عبر مجموعة من المؤسسات والقواعد والمعايير.

ونشأ نظام دولي بعد الحرب العالمية الثانية عبر منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد واحترام القانون الدولي ومنع انتشار السلاح النووي، وبعد انتهاء الحرب الباردة ترسخ النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة، التي بدورها قد عملت على فرض نظام ليبرالي سياسي واقتصادي جديد مدعوم بالعولمة والاعتماد المتبادل الدولي، وذلك أيضاً عبر مجموعة قواعد ومعايير من أهمها احترام حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية والتدخل الدولي الإنساني والحوكمة العالمية وغيرها.

وارتهن النظام الدولي الجديد، وتحديداً بعد الحرب الباردة بالهيمنة الأميركية الأحادية الساحقة في العالم. إذاً، فإنه بخلاف أن هذا النظام الجديد قد تم فرضه أو ترسيخه بسلطان الإرادة الأميركية؛ فهو أيضاً نظام يشوبه الكثير جداً من المثالب والمعايير المزدوجة. فنذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الكوارث التي نجمت عن الرأسمالية المتوحشة حتى في معاقلها الغربية.

وإزاء تراجع الهيمنة الأميركية الواضح في العالم منذ 2008، فضلاً عن بزوغ الكثير من المتغيرات والتحديات الدولية كتنامي دور الشركات متعددة الجنسيات، وتفشي أزمة المناخ والهجرة العالمية؛ بدأ يتشكّل نظام دولي جديد تعددي بامتياز من حيث انتشار مراكز القوى الدولية المؤثرة، وتوزع النفوذ الدولي ليشمل أفراداً ومنظمات دولية.

لكن وسط ذلك، برزت الصين باعتبارها القوة الأبرز في هذا النظام الدولي الجديد، وتحديداً على الصعيد الاقتصادي. والأهم من ذاك، أن الصين تسعى فعلياً بأن تكون محور هذا النظام الدولي الجديد التعددي. بحيث يُعاد تشكيله تدريجياً في إطار مجموعة المؤسسات والمعايير والقواعد الصينية.

منذ تولى الرئيس شي جينبينج، مقاليد القيادة في 2013، طرحت الصين مجموعة من المبادرات والأفكار والمعايير، التي تُشكّل في الوقت الراهن منافساً قوياً للنظام الليبرالي العالمي، وستمكن الصين في الأجل المنظور من تبوؤ القيادة الدولية.

وعلى رأس هذه المبادرات، تأتي مبادرة الحزام والطريق المبادرة الاقتصادية العملاقة غير المسبوقة في التاريخ. وانضم إلى المبادرة طوعياً ما يناهز 200 دولة تشمل قارات العالم الخمس.

ويتأتى ذلك من قناعة الدول المنضمة بالفوائد الاقتصادية المذهلة التي ستجنيها. إذ روجت الصين للمبادرة بحسبانها مبادرة قائمة على التعاون والمنفعة المشتركة للجميع، وأيضاً بحسبانها مبادرة ترمي إلى تقوية الروابط الثقافية بين الشعوب، وإحداث التكامل الصناعي ونقل التكنولوجيا وأهمية الحفاظ على البيئة.

وطرحت وروّجت الصين للمبادرة انطلاقاً من منظومة قيمها الخاصة المستمدة من تاريخها وحضارتها وثقافتها العريقة. إذ تروج للمبادرة تحت شعار «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، والتي تعني تبني نظام اقتصادي رأسمالي حر يوازن بين النمو والتنمية وتحقيق العدالة للجميع.

وبطبيعة الحال يعد هذا الأمر أو الشعار الذي لقي رواجاً وجذباً كبيراً حتى في الدول الأوروبية المنضمة للمبادرة، مناهض تماماً للرأسمالية الغربية المتوحشة.

ومبعث الانجذاب الكبير له أيضا يعزو إلى نجاح الصين الباهر في تطبيقه، إذ استندت التجربة الاقتصادية المذهلة للصين على المزج بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي وعدم ترك آليات السوق في التحكم تماماً حفاظاً على السلم والأمن الاجتماعي وتوفير فرص العمل. وكان من أبرز ثمار ذلك، انتشال ما يقرب من 300 مليون صيني من تحت خط الفقر المدقع.

وتمثل المبادئ الخمس للسياسة الخارجية الصينية، وتحديداً مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أبرز المرتكزات الرئيسية للمبادرة. وهذا عنصر يمثل عنصر جذب آخر مهماً للمبادرة وللصين كنموذج.

فالصين، على عكس ما يعتقده الكثيرون من عدم اكتراثها تماماً بقضايا حقوق الإنسان- إذ ما في الأمر، أن لدى الصين منظوراً مختلفاً تماماً في تلك المسألة. حيث ترى الصين أن منطلق حقوق الإنسان اقتصادي بحت.

فالعدالة والتنمية الاقتصادية من منظور الصين أسبق وأعمق، وستؤدي حتماً إلى تحقيق وترسيخ باقي الحقوق تباعاً. وتدلل الصين على ذلك بمستويات الفقر الآخذة في التزايد في الغرب، والتدني الرهيب في معايير الأخلاق، وهو ما أفضى إلى تنامي الشعبوية الغربية ممثلة في ترامب في الولايات المتحدة، والأحزاب اليمينة المتطرفة في أوروبا.

ومثلت كل من أزمتي كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية، أزمتين كاشفتين للغاية للنظام الدولي الجديد بالقيادة الصينية الضمنية. ففي حين تعثر الغرب بمؤسساته وخاصة منظمة الصحة العالمية في التصدي للأزمة، قامت الصين عبر «طريق الحرير الصحي» بجهود جبارة لمساعدة دول العالم على التصدي للأزمة وذلك من خلال مساعدات مالية وصحية ضخمة تُقدر بالمليارات.

وأزمة كورونا في حد ذاتها كانت كاشفة بامتياز لهشاشة النظام الغربي الاجتماعي والصحي الذي سقط بسرعة الصاروخ فور اندلاع الأزمة عالمياً، مقابل نظام اجتماعي وصحي واقتصادي متماسك للغاية للصين.

وفي ما يتعلّق بالحرب الأوكرانية، نجد أن الاقتصاد الصيني ظل ضمن اقتصادات قليلة في العالم متماسكاً للغاية. والأكثر من ذلك، ظل الموقف السياسي الصيني متماسكاً وصامداً متحدياً التكتل الغربي بعقوباته ضد روسيا. بل إنه مع تطور الحرب وتعقدها، أصبح الحل مرتهناً على نحو كبير بالإرادة الصينية القادرة إلى حد بعيد على عدم تطورها إلى حرب نووية على الأقل. وجدير بنا أن نذكر هنا أن هذه الحرب كانت كاشفة تماما لمدى تراجع الهيمنة الأميركية-الغربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

وأخيراً، بوسعنا القول، إن النظام الدولي في إطار نظام دولي تعددي جديد بقيادة الصين، أو أن تكون الصين مركز ثقله وتوازنه الرئيسي. إذ على الصعيد الجيوسياسى والسياسي العالمي، يتمدد النفوذ الصيني الناعم بشكل مذهل.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تنافس الصين عبر مؤسساتها خاصة مبادرة الحزام والطريق والبنك الآسيوي للبنية التحتية مؤسسات النظام الليبرالي، خاصة البنك الدولي، وتصيغ الصين عبر هذه المؤسسات قيماً ومعايير جديدة اقتصادية ومعيارية جاذبة في الوقت ذاته.