مكتوباً بالطباشير على لوح الصف وقتَ الاختبارات، أتذكّر جيداً الحديث الشريف «مَنْ غشّنا فليس منا». كان الغش وصمة عار، ونشاطاً مرتبطاً بأولئك الطلبة «الكسالى»، المتمردين، الصعاليك. كان نشاطاً تمارسه شريحة هامشية لا يُتوقّع لها مستقبل باهر، بل لا يُتوقع لها مستقبل أصلاً. وكان مجترحوه -بوسائلهم المتواضعة مثل «البراشيم»- حريصين على إبقائه ضمن دوائرهم الخاصة درءاً للفضيحة.

يُكرّر الحديث الشريف ذاته على الطلبة اليوم، ولا يثير رهبة كبيرة فيهم، واأسفاه! بل صار العكس صحيحاً، مَن لا يغش، «فليس منا»؛ مَن لا يغش شخص غريب وجبان. نعم، صار الغش بطولة ومَفخرة، وسبباً للاندماج في مجتمع المراهقين، ووسيلة مرئية للتفوق.

لهذا نجد خطاباً حِجاجياً ينتشر بين الطلبة بل وأهليهم أحياناً؛ «هذه مساعدة»، «هذا تعاون»، «الكل يفعل هذا». ولي عنق الحقائق بهذه الطريقة حيلة قديمة لإسكات الضمير. كحيلةِ المرابين الذين نقل القرآن الكريم تسويغاتهم {... إنّما البيع مثل الربا...}، وكحيلة النمرود حين جابهه إبراهيم -عليه السلام- بحقيقة أن الله يُحيي ويُميت، فأُسقط في يده، وجاء بمواربة عقلية سمجة.

إعلاء الغش لم يحدث فجأة، بل هو نتاج فلسفة تعليمية ترى الطالب قرص تخزين يحتفظ بالمعلومات دون وعي أو ابتكار، فلسفة لا تستثمر في بناء المهارات وقدرات التفكير. وتشيء الطالب بهذه الطريقة اللاإنسانية تجعله لا يرى التعليم إلا بمنظور حسابي؛ فالشهادة مجرد ورقة توصله للتعليم الجامعي، ثم للوظيفة، وللوجاهة الاجتماعية طبعاً، وكل الوسائل مباحة في سبيل هذه الورقة. فينتج لدينا نظام تعليمي تشيع فيه ثقافة الغش التي تتمظهر بأشكال عدة: تفننٌ في تطويع التقنية بغرض الغش، شراء الواجبات والبحوث المدرسية، تسريب للاختبارات وبيعها، تهاون المسؤولين عن معاقبة الغشاشين والمغشِّشين، بل انحدر الوضع حتى صار بعض المعلِّمين يعمدون إلى تغشيش الطلبة في الصف جهاراً نهاراً، عياناً بياناً! يُضاف إلى هذا واقع اجتماعي يغفل معاقبة الغشاشين توقياً للحرج الاجتماعي، وانقياداً لثقافة «الفزعة». ثم زاد الطين بلة مع التحوّل إلى التعليم عن بُعد أثناء الجائحة، مما أفرز أفانين جديدة للغش، وصرنا نسمع عن أهلين هم مَن يغشّشون أبناءهم بأنفسهم. لم يحدث هذا في غفلة بليل، بل هو وليد سنوات من غض الطرْف عن الغش الذي عشّش حينما أمِن العقوبة، وتحوّل إلى واقع لا يستنكف الناس منه.

ليست المشكلة في كون الغش يخرّج طلبة بمعارف ضحلة ومهارات متهافتة، فالمعلومات تُنسى والمهارات تتقادم. المشكلة أنه يخرّج جيلاً يعتنق منظومة قيم لا ترى غضاضة في الغش، بل تعدّه بطولة. منظومة مثل هذه قادرة على ابتلائنا بجيل يستحلّ الفساد -بكل ضروبه- ويراه أسلوب حياة. هذا جيل سيرث الأرض من بعدنا، فكيف ستكون الأرض؟

الغش ملّة واحدة، ولا تسويغ لأيّ شكل من أشكاله. مَن يَغش سيُغش. غداً تدور عليه الدوائر؛ سيتصدع بيته الذي يبنيه مهندس تحصّل على شهادته بمعونة الغش، وسيأتيه طبيب مَرَدَ على الغش فيُفقده عزيزاً، وسيأكل طعاماً فاسداً يتاجر به غشّاش، وسيدفع أثماناً باهظة لبضاعة مزيفة. ولن يجد مَنْ ينصفه لأن الغش سيكون الأصل، والفساد سيد الموقف، وما عداهما استثناء.

بين عصر «البراشيم» وعصر «السمّاعات» زمن ليس بطويل، لكن بينهما هوّة قيميّة سحيقة. هوّة سنعلم أنها رُدمت حينما يخجل الغشاش من فَعلته ويتوارى منها. ولن يحدث هذا إلا بمنظومة عقابية جادّة تَزَعُ بالسلطان، ومنظومة أخرى تؤمن أن التعليم استثمار في بناء العقول لتولّد المعارف لا لتخزّنها.