قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حظر توريد النفط ومشتقاته إلى الدول «غير الصديقة» التي تفرض سعراً محدداً للطاقة الروسية، بدءاً من فبراير المقبل ولمدة خمسة أشهر. وهذا يعني أن السعر لم يعد مهماً حتى ولو كان الأقصى المحدد من الدول الغربية أكثر ارتفاعاً من سعر السوق ويصب في مصلحة روسيا لان الكرملين يرفض الانصياع لإملاءات الغرب بقيادة الولايات المتحدة.
وهذا الواقع يعني أن الاضطراب لا مفر منه في الأسواق العالمية، خصوصاً أن الصين استعادت نشاطها بعد خفضه أثناء ارتفاع إصابات «كوفيد - 19» في الأشهر الأخيرة، وأن روسيا اتخذت قرارها بمعزل عن منظمة «أوبك+» التي كانت أحدثت هزة في الأسواق عندما خفضت في نوفمبر الماضي إنتاجها بمليوني مليون برميل يومياً، ليصل الإنتاج الإجمالي للمنظمة إلى 29 مليون برميل يومياً، منها 8.2 مليون حصة روسيا وحدها.
وسيضطر العالم الغربي وخصوصاً أوروبا وبريطانيا وكندا وأستراليا واليابان إلى البحث عن مصادر أخرى مثل إيران وفنزويلا - وتحمل أعباء ارتفاع الأسعار خصوصاً إذا قررت روسيا خفض الإنتاج ولم تتقدم أي دولة أخرى من «أوبك+» لملء الفراغ الذي ستحدثه موسكو في أسواق الطاقة.
منذ بداية الحرب، التي أطلقت عليها روسيا اسم «العملية الخاصة» في فبراير الماضي، حصلت خلافات بين الدول الأوروبية حول الانصياع إلى الرغبات الأميركية بالانسلاخ الكلي عن الطاقة الروسية من عدمه.
وقد استطاعت واشنطن إيقاف خط «نورد ستريم» 1 و2 من خلال الضغط السياسي وبعد انفجار الأنبوب في بحر البلطيق الذي قطع طريق العودة الأوروبية لشراء الغاز الروسي الرخيص.
ودخلت أوروبا في خلافات حادة حول الاستغناء عن الغاز أولاً، والنفط ومشتقاته ثانياً، لاعتقاد القارة ودولها أن روسيا ستنهار قريباً وأنها ستتقاسم «غنيمة الحرب» مع أميركا.
وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن الغربية وصمدت موسكو أمام آلاف العقوبات التي فرضت عليها وتقدم جيشها في أرض المعركة ليحتل أكثر من 100.000 كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية.
وخرجت أصوات متعددة في بروكسيل، مقر اجتماع القادة الأوروبيين الذين اختلفوا في ما بينهم حول وضع سقف لأسعار الطاقة خصوصاً أنّ هناك دولاً تحتاجها بشدة أكثر من احتياج روسيا لبيعها لهم ولأموالهم.
وقد رفضت المجر وألمانيا والنمسا المشروع المقدم من رئيسة المجموعة الأوروبية أورسولا فون ديرلايين التي اضطرت إلى الخضوع لصيغة مرنة تترك المجال لمن يريد شراء الطاقة الروسية الاستمرار بذلك.
وتعلم أوروبا أن اقتصادها وصناعتها على المحك، إذا ما نفذت روسيا تهديدها بوقف التصدير للدول التي تريد وضع سقف للأسعار كموقف مبدئي لا تستطيع موسكو الانصياع له لكي لا تفقد استقلاليتها وتضع نفسها تحت رحمة الساسة الأوروبيين الذين اختاروا الانضمام إلى الولايات المتحدة وتحمل الخسائر الضخمة.
إلا أن هؤلاء لم يدركوا أن موسكو تستطيع خفض إنتاج النفط، وتالياً المساهمة برفع الأسعار مما سيشكل معادلة جديدة تعود بالعائدات المالية نفسها - أو أكثر من ذلك - إليها حتى بإنتاج أقل.
وتواجه أوروبا منذ أشهر عدة، أكبر ركود تمر به من خلال تضخم قياسي يدهم الاقتصاد المضطرب. فإلى جانب تدفئة المنازل وتوليد الكهرباء، يستخدم الغاز المستورد في صناعة الفولاذ والزجاج وبسترة الحليب والأجبان وغيرها.
ولن تستطيع الشركات تحمل تغيير مصادر الطاقة البديلة السائلة التي تشتريها أميركا من النروج وأميركا (ودول عدة أخرى) بأسعار مرتفعة جداً وصلت إلى ما بين أربعة وعشرة أضعاف سعر الغاز الروسي.
وقد ارتفعت الأسعار في شكل كبير في القارة الأوروبية خصوصاً أسعار الغاز الذي يشكل الوقود الرئيسي لتوليد الطاقة في المنازل والمعامل.
أما الطاقة النووية، فتعمل مثلاً في فرنسا بنصف قوتها بسبب الإغلاق الطويل لها ومشاكل التآكل في الأنابيب الرئيسية.
وقد أدى ارتفاع درجة الحرارة في الصيف الماضي إلى الحد من استخدام مياه الأنهر لتزويد محطات توليد الطاقة مما تسبب أيضاً بخفض إمدادات الفحم للمولدات.
وأتت موجة الصقيع في الشتاء الحالي التي شكلت تحدياً لم تشهده أوروبا منذ عقود ليدفع المستهلكين ثمن قرارات المسؤولين الأوروبيين بمعاقبة روسيا لترتد هذه العقوبات أشد وطأة على واضعيها.
وذهبت أدراج الرياح الإستراتيجية الأوروبية بالتوجه نحو الطاقة النظيفة لتعود محطات الفحم الحجري إلى العمل من جديد، وهي التي كانت من المتوقع أن تبقى مغلقة إلى الأبد بسبب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري... كذلك أعيد تنشيط المحطات النووية.
أما المشكلة الكبرى فتتمثل بتعويض الغاز الروسي للسنة 2023 وإعادة ملء الخزانات الاحتياطية، خصوصاً بعد القرارات التي اتخذت في بروكسيل بوضع سقف لأسعار الطاقة الروسية والتي رفضت موسكو تزويد هذه الدول بالغاز والنفط ومشتقاته بعد شهر فبراير المقبل، خصوصاً بعدما حظرت أوروبا سابقاً أيضاً استيراد الفحم الروسي.
فنزويلا وإيران
لا يمكن لأوروبا الاعتماد على النفط الفنزويلي لأنه يصب في الخزانات الأميركية بعد ان سمحت واشنطن لشركتها «شيفرون» بالعودة لاستخراج النفط بعد توقف دام سبع سنوات. ويبقى النفط الإيراني أمل أوروبا إذا ما رفضت «أوبك+» العودة عن قرارها بخفض الإنتاج.
ولا تريد أميركا إعادة الحياة إلى الاتفاق النووي، لأن إيران لا تريد صناعة القنبلة، ولا ترغب أميركا برفع العقوبات عنها خصوصاً بعد تحدي طهران المستمر لواشنطن وإسرائيل.
وما زاد الطين بلة انه اتضح للغرب أن مسيرات إيران الانتحارية (بتوريدها أو نقل الخبرات لروسيا) قد قلبت الميزان الحربي على أرض المعركة في أوكرانيا مما أضعف المخطط الأميركي بإلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا أو على الأقل إطالة أمد الحرب وتكبيد بوتين خسائر عسكرية فادحة ترفع أمل الانقلاب الداخلي عليه.
وتحبذ الإدارة الأميركية تغيير النظام في إيران بعد أن قال الرئيس جو بايدن انه يريد «تحرير إيران من النظام الحالي». ولذلك فإن عودة الحرارة للعلاقة الإيرانية - الأميركية لا يعتبر خياراً جيداً للولايات المتحدة.
إلا أن المصلحة الأميركية تقتضي أن تغض النظر عن بيع النفط الإيراني لحاجة أوروبا والأسواق العالمية له في الوقت الراهن.
فإيران تملك سبعة حقول نفطية مشتركة مع العراق تحتوي على عشرات المليارات من براميل النفط القابلة للاستخراج. وتستطيع أميركا اعتبار ان النفط العراقي (وهو إيراني) غير خاضع للعقوبات، وتالياً بإمكان الدول الغربية الحليفة لها شرائه بعد تصديره من ميناء البصرة أو من الموانئ التركية حيث توجد العشرات من الشركات الإيرانية التي تنشط بهدف الالتفاف على العقوبات الأميركية.
وقررت إيران رفع إنتاجها إلى أربعة ملايين برميل من النفط اليومي بعد أن كانت 3.838 مليون، أي بزيادة 200.000 برميل بحلول مارس 2023.
وهذا يدل على قدرتها ورغبتها في رفع الإنتاجية وسهولة التصريف لنفطها، خصوصاً أن الهند وباكستان وأفغانستان والصين وتركيا، من أهم زبائن طهران الذين أعلنوا عدم التزامهم العقوبات الغربية الآحادية.
وتفضل إيران بيع نفطها لمن يشتري من دون أن تغلق الباب أمام القارة الأوروبية لأنها تستلم الأموال باليورو أو الدولار وتنعش صندوقها المالي وتتحايل على العقوبات الأميركية وتمول حلفائها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن طهران تأمل دائماً - ولو بنسبة ضئيلة - من قادة القارة العجوز اتخاذ موقف مغاير للولايات المتحدة بعد فترة رئاسة بايدن أو بعد أن يعانوا من نتائج السياسة الأميركية التي أصابت الاقتصاد الأوروبي في الصميم وارتدت العقوبات على أوروبا بخسائر فادحة بينما عادت بأرباح طائلة على أميركا.
لا توجد أمام أوروبا خيارات جيدة مما قد يدفعها للتشقق أو اتخاذ قرارات لا تتلاءم مع مقررات بروكسيل التي تتناغم مع السياسة الأميركية.
وسيكون الاستحقاق المقبل في فبراير مؤلم على القارة العجوز مهما اتخذت من قرارات ويبقى الاشتباك الغربي - الروسي على أشده ما دامت الولايات المتحدة لا تريد إيقاف المعركة مع روسيا في أوكرانيا.
ماذا تنتظر روسيا؟
مما لا شك فيه أن الاقتصاد الروسي سيتضرر من جراء وقف تصدير النفط إلى أوروبا وهو مصدر مالي مهم لموسكو.
إلا أن المعركة، كما قال بايدن «أكبر من أوكرانيا»، وتالياً فان بوتين لا يستطيع التراجع الآن مهما كانت النتائج، خصوصاً أن حلفاء أميركا هم أكثر المتضررين وقد لا يلتزمون بقراراتهم إذا فقدت البدائل أمامهم، وهو ما تتمناه موسكو.
ولهذا فان بوتين يهيئ المخرج الغازي لأوروبا عبر إنشاء محطة في تركيا تستطيع القارة العجوز شراء احتياجاتها منها من دون المرور بشركة «غاز بروم» الروسية... فهل تنجح روسيا بمساعدة أوروبا في الالتفاف على عقوباتها التي أعلنت من بروكسيل؟