تُغادِر 2022 بعدما غدَرت و«أخواتها» (2020 و2021) بلبنان وناسه الذين يعدّون الساعات إيذاناً بسقوط الورقة الأخيرة من روزنامةِ سنةٍ لن تطوى مع نهايتها الصفحةُ الأخيرة من «تراجيديا» وطنٍ كأنه... يلفظ أنفاسه.
لا يمكن أيّ لبناني تخطي الـ 2022 بسهولة.
هي ليست سنة انفجار الأزمة المالية أو تفجير مرفأ بيروت أو اقتياد الدولة إلى المجهول أو عزْل لبنان عن محيطه، لكنها وباختصارٍ موجعٍ سنةُ المَجاعة التي تفترس غالبية اللبنانيين وتقضّ مضاجعهم.
الـ2022 التي أقلعتْ بدولارٍ لا يتعدى الـ 20 ألف ليرة تودّع أيامها الأخيرة مع دولارٍ بلغ جنونه أكثر من الضعف، بعدما أوشك أن يصل إلى 50 ألفاً في لعبةِ ترويعٍ للسواد الأعظم من اللبنانيين الذين تحوّلوا جيشاً من الفقراء.
إنه الفقر الذي بدأ يفرض إيقاعه بحدةٍ على طبقة وسطى غالباً ما شكّلتْ صمام الأمان الاجتماعي، فإذ بها تندثر لتنمو على ضفافها طبقة جديدة من «دولاريين» إما يتقاضون رواتبهم بالعملة الخضراء أو ينعمون بـ «فرش دولار» من عائلاتهم في الخارج.
ولعلّ الأكثر فظاعة في 2022 أن المرضى سلّموا بأن علاجَهم صار بالدولار وأن مَن لا يملكه يموت بمنزله ولا يستقبله مستشفى. وأصبح الدواء بالدولار ومفقوداً من السوق لارتفاع سعره فبات اللبنانيون يلجأون إلى تركيا ومصر والأردن للحصول على أدوية موازية.
ثمة نماذج اجتماعية أظهرت حياةَ بذْخ وسهر وسفر. وهي نماذج موجودة وستظلّ قائمة لدى فئة تراوح نسبتها بين 20 إلى 30 في المئة، من الميسورين وأصحاب الثروات، إضافة إلى فئة تنشأ في الحروب والأزمات الاقتصادية مع ظهور طبقات جديدة من المهرّبين والعصابات وتجار الأسلحة والمخدرات، يضاف إليهم في لبنان «طبقة الصيارفة» الذين تحوّلوا أثرياء المدينة الجدد، والمستفيدون من بيع الشيكات كتجارة مربحة، ومدراء مصارف وأصحاب رساميل وتجّار استفادوا من لعبة انهيار الليرة ليراكموا ثرواتهم، عبر تجارة المحروقات والأدوية والأغذية.
وتكشف مواقع التواصل الاجتماعي الفارق الشاسع بين الحياة الحقيقية للبنانيين وحياة الشبكة العنكبوتية من سهرات عامرة وصُوَر مآدب والسهر والسفر والأزياء الثمينة. وقد شهد لبنان تدفُّق آلاف المغتربين والعاملين في دول المنطقة بكثافة لتمضية عيديْ الميلاد ورأس السنة ما أوحى وكأن لبنان يعيش أبهى أيامه.
لكن الواقع مغاير تماماً ويمكن تَلَمُّسه بين الأحياء الفقيرة ومن أعمال المؤسسات الاجتماعية التي تمدّدت شبكة عملها بعد الانهيار الحاد في سعر الليرة.
وأكثرية اللبنانيين يودّعون سنة 2022 وهم يأملون في أن تتحسن رواتبهم أو يتراجع سعر الدولار إلى رقم يمكن التعايش معه. فلا أحد يحلم منهم بدولار يساوي 1.500 ليرة، بل بحد أدنى من مقومات الحياة اليومية.
وليس أمراً عادياً أن ينشغل أبناء «بلاد الأرز» بمتابعة حلقات تلفزيونية لطلب مساعدات مالية للعائلات الأشدّ فقراً ومرضى السرطان، أو حتى بخبر طفل لم يطلب هديةً يوم الميلاد بل طلب من الله أن تكف والدته عن البكاء لأنها لا تملك مالاً لشراء سندويشات جبنة له ولإخوته إلى المدرسة.
2022 قد تكون سنة تكريس الاقتناع بأن الانهيار أصبح شاملاً وأن من الصعب على موظفي القطاع العام وأساتذة الجامعة اللبنانية والعسكريين الذين باتوا يعملون سائقي أجرة وعمالاً مياومين ومن كل القطع الأمنية والمتقاعدين الذين انخفضت قيمة رواتبهم، أن يعيشوا بكرامتهم بعدما أصبحت رواتبهم تراوح بين خمسين إلى مئتي دولار.
ويقول صاحب محل تصليح أحذية إن تصليح حذاء يكلف 20 دولاراً أي نحو 900 ألف ليرة لبنانية.
وبحسب خياط ألبسة فإن تصليحاً بسيطاً لبنطلون رجالي يكلّف بين 200 إلى 300 ألف ليرة. أما تصليح موتور براد كهربائي فتصل تكلفته إلى 150 دولاراً يضاف إليها بدل نقليات وثمن صفيحة البنزين.
ونماذج التصليحات هي مشهد من فصول الفقر اللبناني الذي انتعشت معه المِهن الحرفية التي أضحت مقصد اللبنانيين الذين لم يعودوا قادرين على شراء حذاء جديد، أو ثياب جديدة والأكيد أنهم غير قادرين على شراء برّاد جديد.
في دراسة اجتماعية حديثة أن نسبة ما لا يقل عن 20 في المئة من الذين لديهم اشتراك مولد كهربائي قطعوا اشتراكاتهم. وتقول إحدى السيدات التي تعمل موظّفة في مدرسة إنها لم تعد قادرة على دفع اشتراك المولد الذي أصبح بالدولار فيما قيمة راتبها لا تتجاوز 150 دولاراً، وهي تكتفي مساءً بالجلوس في البيت على ضوء شموع أو لمبات تغذى بالطاقة الشمسية. وتضيف انه منذ أشهر لم تعد تعرف ماذا يجري في لبنان لأن لا كهرباء لديها لإشغال التلفزيون.
ويروي أحد الموظفين ان زميلة له كانت تأتي كل يوم إلى العمل وهي تحمل بعضاً من ثياب غير مكوية وتَستخدم مكتبها في إحدى الإدارات الرسمية من أجل كيّ ثيابها.
وهذا الأمر حدا بإحدى المؤسسات الاجتماعية إلى أن تخصص إحدى قاعاتها لنساء المنطقة المحيطة بها من أجل الاستفادة من الكهرباء لعمل حاجياتهن المنزلية من كيّ واستخدام مجفف الشعر وحضور التلفزيون، وما إلى هناك.
وهذه المؤسسات لديها كمّ من الروايات اليومية عن حالات الفقر المتزايدة والمَخْفية، حين تجفف إحدى السيدات أكياس الشاي لتستخدمها أكثر من يوم لأولادها، أو حين تكتفي إحداهن بالتدثر بحرام صوفي وأولادها لعدم وجود مدفأة، أو عندما تقول إحداهنّ لمرشدة اجتماعية انها لم تذق طعم اللحم والحلويات منذ شهور طويلة. كل مظاهر الفقر صارت واضحة في الثياب التي يستأجرها اللبنانيون من بعض المحال التجارية، وفي اصطفافِ العشرات أمام العيون والينابيع لتعبئة مياه الشفة بعدما ارتفعت أسعار قناني وغالونات المياه في صورة دراماتيكية.
وتكثر روايات محاولة اللبنانيين الذين انهارت أوضاعهم الاجتماعية التأقلم مع الحياة الجديدة التي باتوا يعيشونها. ومشهد القابعين في منازلهم من دون تدفئة في الجبال المثلجة والباردة من دون كهرباء ولا تدفئة بسبب ارتفاع أسعار المازوت والحطب، بات موجوداً بكثرة في العديد من البلدات الجبلية، ويتناوب بعض سكانها على السهر في بيتٍ واحد تخفيفاً لعبء الكهرباء.
وقد تكون 2022 أسوأ السنوات التي مرتْ اقتصادياً على اللبنانيين. والأفظع أن كل ما شهدتْه من تدهورٍ لم ينعكس في المقابل أي تحركٍ شعبي مضاد من أجل الضغط على السلطة السياسية كما حصل في تظاهرات 2019.
وكأن التأقلمَ مع الفقر والمجاعة صار من عادات اللبنانيين الذين اختاروا الهجرة المتزايدة بدل الانتفاضة على سلطات متعاقبة تُمْعِن فيهم قهراً وباتوا يموتون بصمتٍ ويعيشون بصمتٍ بعدما خفتتْ أسطورةُ طائر الفينيق الذي ملّ... من الرماد.