... ما زال الفرحُ مُمْكِناً. هذا ما «هَمَسَتْ» به احتفالاتُ عيديْ الميلاد ورأس السنة في بيروت. إذ أضيئتْ أسواقُ المدينة منذ أيام وارتدتْ زيّ الأعياد، لتسترجع العاصمةُ بعضاً من ألقها والوسطُ التجاري نبضَه واللبنانيون شيئاً من حياةٍ إعتادوها لكن الأزمة الإقتصادية الخانقة التي بدأت في أواخر 2019 ولا تزال تتفاقم «اغتالتْها».

في قلب بيروت تعمّ مَظاهر الإحتفال وأقواس الفرح والأضواء. زينةٌ تتلألأ في كل أنحاء السوق وعلى مداخله المختلفة حيث رُفعت كلمات مثل Beirut وHope وSOUK EL BALAD وLove وAlways be Happy وغيرها من عبارات الأمل والفرح التي بدا معها أن العاصمة خلعت عنها ثوب التعب كأنها في... ميلاد جديد.

نشاطاتٌ متنوعة ومختلفة تملأ المكان، إذ يقدّم فنانون مجموعةً من العروض للكبار والصغار. في أكثر من شارع وضعت أكشاك (أكواخ) صغيرة مزيَّنة تبيع المأكولات مثل البرغر والمعجنات والمشروبات والحلويات مثل غزل البنات وحلوى الكريب، وأخرى تبيع الهدايا والصناعات الغذائية العضوية من أنواع المربيات المختلفة والخل والزيت والزعتر.

ولا تخلو تلك الأكشاك من الملابس والحقائب والجوارب والحلي والأكسسوارات المصنوعة يدوياً، وأنواع العطور والصابون. وحتى الورود وجدت لها مكاناً في السوق.

وبين زحمة الأكواخ التي شكلت سوق الكريستمس أو ما يُعرف بالـ Christmas Market، يلوح أحد الأكشاك الذي يبيع الكتبَ والرواياتِ بلغاتٍ مختلفة ومواضيع متنوّعة، فيُضْفي نكهةً خاصة من خارج «ألف باء» الاحتفالات «التقليدية» وطقوسها التي غالباً ما تُكتب بأبجدية الألوان والأضواء، لا بالكلمات.

في المشهد الأكبر، تشهد أسواق بيروت حركةً كثيفة بعدما شكلت فسحة للكبار والصغار. زوارٌ يتجمّعون أمام المنصة حيث العروض المجانية، وآخَرون يستمتعون بموسيقى صاخبة تعزفها فرقة موسيقية. مجموعة أخرى تتحلّق حيث يقام عرض للمهرّجين. وأطفال يلهون هنا وهناك، وعائلات تجتمع على مقاعد خشبية لتناوُل الطعام.

فسحة أمل

في الحصيلة، يبحث اللبنانيون عن فسحة أمل ولو بسيطة للعيش والنجاة. يأملون في غالبيتهم أن تتحسّن الأوضاعُ في البلاد. وقد شكلت إحتفالات العيد قطرةَ ضوء للكثيرين منهم، وذلك بعد نحو 3 أعوام هّبت فيها على الوطن الصغير واحدةٌ من أعتى 3 أزمات مالية عرفها «الكون» منذ 1850 وما زالت تجرجر نكباتها، وواحدٌ من أقوى 3 انفجارات غير نووية شهدها الكوكب في تاريخه مع «بيروتشيما» الذي حوّل نصف العاصمة ومرفأها هشيماً ولم تندمل جروحه بعد، ومعهما ثورةٌ انفجرت في 17 اكتوبر 2019 بوجه «كلن يعني كلن» قبل أن يخفت وهجُها على وقع تعاظُم «لهيب» الانهيار.

وهكذا تبدو الإحتفالات في وسط بيروت وأسواقها على مرمى العين من مسرح انفجار المرفأ وكأنها فعلُ صمودٍ وحياةٍ سيستمرّ حتى الأسبوع الأول من العام الجديد الذي يأبى اللبنانيون أن ينكّسوا الأمل بأن يحملَ طلائع حلول لأزماتهم المُرّة بكوابيسها وأهوالها.

لبنانيون لـ «الراي»: «اشتقنا»

تقول إيمان رحال، وهي إحدى زائرات أسواق بيروت لـ «الراي»: «جئتُ وبناتي من صور خصيصاً إلى بيروت لنعيش الاحتفالات. الأجواء حلوة جداً. ولم نحتفل هكذا منذ 5 سنوات. أشعر وكأنني لستُ في لبنان».

وتضيف «اشتقنا لعجقات الفرح في لبنان. واستعدنا الإحساس بالأمان. وأكثر ما لفتني أن الناس من مختلف الأذواق والطبقات مجتمعون هنا. السوق جميل جداً، وقد فرحنا واشترينا أشياء متنوعة».

وترى ميادة العبدالله، القادمة من كفرشيما الى الأسواق «شكّل المكان فسحةً مهمةً للناس، المقتدرين مادياً وذوي الدخل المحدود والفقراء أيضاً»، وتضيف «كل حدا بيقدر يعيش هيدي الأجواء من ون أي كلفة مادية».

وتختم «عشنا خلال الفترة الماضية، الإقفال وتبعات فيروس كورونا والإنهيار الإقتصادي وإنفجار المرفأ، ومن هنا جاءت فسحة الفرح التي وُجدت في أسواق بيروت لتعيد بعض الحياة إلى العاصمة».

من جهته يرى الناشط في شؤون العاصمة والرئيس التنفيذي لمجموعة بيروت 24 نديم بيضون "أن الإحتفالات بالأعياد والمناسبات هي حاجة مُلَحّة لبيروت التي تعاني أزمات جمة في الكهرباء والمياه والإنماء والخدمات، لاسيّما بعد إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من اغسطس 2020، والّذي دمر أجزاء كثيرة من المدينة".

ويقول لـ «الراي»: "أعتقد أن الإحتفالات والزينة والـChristmas market أقيمت كنتيجة للضغوط التي مورست على سوليدير التي تعاني حالة تخبط، وذلك عبر السوشيال ميديا ومن قبل عدد من نواب بيروت الّذين طالبوا بإعادة تفعيل وسط بيروت".

ويضيف: «في الظروف الراهنة، كان لا بد من فتح المجال أمام الناس من أجل الفرح. فيما يبقى الأهمّ أن تنتقل هذه الإحتفالات في الوسط الى جهة مجلس النواب»، لافتاً الى «أن هناك مساعٍ في المدينة، من أجل إعادة فتح المحال التجارية في وسط بيروت أمام المشاريع الصغيرة بكلفة تأجيرية مخفضة ومقبولة للشباب».

احتفالات متنقلة

وتنتشر الإحتفالات في العاصمة، ولكن بوتيرةٍ أقل خارج الأسواق. ففي ساحة ساسين - الأشرفية أضيئت شجرة الميلاد وحلّت الزينة. وفي الشوارع يدور قطار العيد بين الأحياء، فيما تخفت الأضواء في مناطق أخرى خارج بيروت الإدارية.

«مظاهر الميلاد ليست بارزة تماماً في كثير من القرى المسيحية هذا العام، ففي كفرشيما حيث أسكن مثلاً، زُيّنت المغارة كما العام الماضي»، حسبما يقول حسين حوري لـ «الراي».

ويضيف: «أعتقد أن الأوضاع الإقتصادية هي السبب الأوّل في هذا التراجع، ززحمة الزائرين في أسواق بيروت هي نتيجة حتمية لواقع فرض على الناس الخروج الى أماكن لا يتكبد فيها الفرد دفع كلفة مادية مرتفعة».

ولا يختلف المشهد كثيراً في البقاع والجنوب حيث تقلّ أضواء العيد والضوضاء.

ويقول جاك لبُس لـ «الراي»: «تتراجع التحضيرات للعيد عاماً بعد عام، حتى أن رهجة العيد باتت أقلّ في البقاع الغربي وزحلة (حيث يسكن)، ربما بسبب الأزمة الإقتصادية المتفاقمة. إذ تمت إضاءة شجرة الميلاد ولكن خفتت الأضواء وزينة العيد».

ويرى لبس أن هذا الأمر مرتبط بالانقطاع المستمرّ للكهرباء في المنطقة، لافتاً الى وجود مبادرات فردية في البقاع لإضاءة الأحياء والشوارع كما بادر الفنان وائل كفوري.

وفيما يتعلق بالمقيمين هناك «يبدو أن بال الناس في مكان آخر ويتركز على كيفية تأمين حاجاتهم وخصوصاً مادة المازوت للتدفئة. فالناس مرهَقون، وتثقل كاهلهم أزمات البلد الكثيرة، حتى أن لا زحمة أعياد ولا جَمْعات هذا العام»، يضيف لبس.

ويعاني لبنان انقطاعاً في التيار الكهربائي يغيب معه «نور الدولة» أحياناً لأيام كاملة، بسبب شح الوقود المخصص لتشغيل محطات توليد الكهرباء ما يجعل الناس رهينة مولدات الأحياء أو الاضطرار للجوء لمصادر أخرى لتأمين التيار، فيما تطغى العتمة الشاملة على غالبية الشوارع اللبنانية باستثناء عدد قليل تمت إضاءته على الطاقة الشمسية أو من خلال المولدات الخاصة.