يستمر استسلام اللبنانيين، ومعهم ما يربو على مليونيْ نازح سوري ولاجىء فلسطيني، إلى العواصف الدراماتيكية المتأتية من تَفاقُم الضغوط النقدية والاستهلاكية، وسط غياب شبه تام لحضور الدولة التي تعاني شغوراً وقصوراً متزايداً في مؤسساتها الدستورية الرئيسية، فيما يستمر الشلل متحكماً في الوزارات والإدارات التي تعجز تماماً عن توفير أدنى الخدمات العامة ما يضيف أعباء أثقل على أبواب إنفاق الأُسر غير القادرة على تأمين أبسط مقومات المعيشة اليومية.
ومع الانحدار القياسي المستجدّ للعملة الوطنية أمام دولارٍ يلامس 45 ألف ليرة، كسبت التقارير المتوالية والصادرة عن مؤسسات مالية دولية جولةً جديدةً في «تعرية» المنظومة الحاكمة التي اتهمها البنك الدولي بدايةً بسلوك منهجية «الانكار»، لينتقل سريعاً إلى وصْمها بتعمُّد سياسات الكساد والتهرّب من موجبات الاصلاحات الهيكيلة، ليصل الأمر أخيراً بالمدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك جان كريستوف كاريه للافصاح الصريح بأن «عمق الأزمة واستمرارها يقوّضان قدرة لبنان على النمو، إذ يجري استنفاد رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والمؤسسي والبيئي بسرعة وعلى نحو قد يتعذر إصلاحه».
وبالفعل، أيقظت التطورات النقدية الطارئة قبيل نهاية العام ولو متأخرةً، ما اعتقده كثيرون «حلم ليلة صيف» في منتصف العام 2020، وتوقعات سابقة صادرة عن «بنك أوف أميركا» ومبنية على محاكاة بحثية لتقديرات صندوق النقد الدولي، رجح فيها وصول سعر الدولار الى سعر 46.5 الف ليرة، والانطلاق إلى مشهد أشد قتامة لاحقاً ما لم تَحْدث تحولات نوعية في مقاربات الأزمات المتفجرة وإبرام الاتفاق النهائي مع الصندوق وتلقّي لبنان لتدفقّات نقديّة كبيرة وإرتفاع كبير في سعر الصرف الحقيقي لليرة اللبنانيّة وتعافٍ إقتصادي سريع.
ولاحقاً، لم يتردّد البنك عينه في التقدير بأنّ الطبقة السياسيّة ستتجنّب توقيع إتّفاق مع صندوق النقد، ما سيؤدّي إلى تدهور إضافي في سعر الصرف وإلى إنكماشٍ إقتصادي أعمق في النصف الثاني من العام 2022. وافترض هذا السيناريو أنّ الإقتصاد اللبناني لم يصل بعد إلى أدنى مستوياته، وعند وصوله إلى هذه المستويات فإنّ التعافي سيكون بطيئاً ما سينتج عنه عقد ضائع على اللبنانيين. كذلك فإنّ تحويل الودائع المحرَّرة بالعملة الأجنبيّة إلى الليرة سيستغرق سنوات مما سينتج عنه إرتفاع في الكتلة النقديّة وتدهور إضافي في سعر الصرف.
وفي المستجد الوارد من مؤسسات دولية والذي اطلعت «الراي» على ملخّصه وجَداوله، أكدت وكالة «موديز» في تقريرها الأحد أنّها لا ترتقب أي تحسّن في تصنيف لبنان في المدى القريب. ذلك «أنّ أيّ تحسين في تصنيف لبنان يعتمد على تطبيق إصلاحات جوهريّة على مدى سنوات عدّة من جهّة، وحصول تقدّم ملحوظ في ديناميكيّة الدين كالنموّ الإقتصادي ومستويات الفوائد وإيرادات الخصخصة والقدرة على تسجيل فوائض أولّية كبيرة من جهّة موازية، توخياً لضمان إستدامة الدين في المستقبل».
واذ حافظت الوكالة على تصنيف لبنان السيادي عند الدرجة «C»، والذي يعكس إحتماليّة كبيرة بأن تتخطّى خسائر حاملي السندات الحكومية نسبة 65 في المئة، نوّهت بنقطة القوَّة الوحيدة للبلاد والتي تكمن فقط في إلتزام الدول المانحة بدعم لبنان شريطة تطبيق برنامج الإصلاح المُعَدّ من صندوق النقد الدولي. وفي المقابل، أشارت إلى جدية التحدّيات القائمة نتيجة التعرّض الآخذ بالإرتفاع لأزمة إقتصاديّة وماليّة وإجتماعيّة حادّة، وضعف المؤسّسات ونظام الحوْكمة الذي يوخّر الدعم الخارجي، وإندثار القوّة الشرائيّة جرّاء التراجع الكبير في سعر الصرف والإرتفاع الملحوظ في مستويات التضخّم.
وقد سجّل لبنان نتيجة «b3» في معيار القوّة الإقتصاديّة نظراً لصغر حجمه، وآفاقه الإقتصاديّة الضعيفة، ومحدوديّة قدرته التنافسيّة، والأكلاف الكبيرة للتعديل الإقتصادي نحو نموذجِ نموٍّ جديد وأكثر إستدامة. لكن التقرير عاود التذكير بأنّ القدرة التنافسیّة وقدرة النموّ الإقتصادي في لبنان تراجعتا منذ إندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، والتي نتج عنها تباطؤ شديد في الحركة السياحيّة، وتقلُّصٌ جذري في الحركة التجاريّة، وزيادة الأعباء على البلاد مع تدفُّق النازحين السوريين إليها.
أما بالنسبة للقوّة المؤسّساتيّة، فقد سجّل لبنان نتيجة «caa3»، ما يعكس الضعف في بيئة الحوْكمة وذلك في ظلّ ضعف فعاليّة السياسة الماليّة للدولة تماشياً مع محدوديّةِ فعاليّة السياسات النقديّة والماليّة وذلك عند أخذ الضغوط الإقتصاديّة والخارجية في الإعتبار. كما يعكس هذا التصنيف تخلُّف لبنان عن دفْع سندات اليوروبوندز الذي أقدمت عليه حكومة الرئيس حسان دياب في ربيع 2020، والذي أفضى تلقائياً إلى استحقاق كامل شرائح السندات الموزَّعة حتى العام 2037، وبقيمة أصولٍ إجمالية تناهز 30 مليار دولار.
وعلى صعيد القوّة الماليّة، نال لبنان نتيجة «ca»، وهي نتيجة تعكس دين الدولة الكبير الذي قد يتسبّب بخسائر كبيرة للدائنين في حال تعثّرت الدولة عن الدفع. وبحسب الوكالة فإنّ مسار الديْن يبقى عرضةً بشكل كبير لديناميّاتِ نموٍّ وتضخُّمٍ وإحتياطات عملة أجنبيّة معاكسة وهو ما يشير إلى إمكانيّة تسجيل خسائر إضافيّة في ظلّ غياب خطّة إعادة هيكلة تزامناً مع دعم صندوق النقد الدولي والإنتقال إلى نظام نموّ مستدام.
أخيراً، حصل لبنان على نتيجة «ca» في معيار التعرُّض لمخاطر الأحداث، نظراً لمخاطر السيولة والتعرّض الخارجي الكبير، كما والتعرّض الكبير للقطاع المصرفي للديْن السيادي.