باريس - أ ف ب - يجد النظام الإيراني نفسه في نهاية العام 2022 في مواجهة تحدٍّ مصيري في ظل استمرار احتجاجات غير مسبوقة في مدتها ومضمونها متواصلة منذ نحو ثلاثة أشهر وقامت بكسر محرّمات وزعزعة ركائز الجمهورية الإسلامية العقائدية.
اندلعت التظاهرات في منتصف سبتمبر الماضي، بعد وفاة الشابة مهسا أميني التي أوقفتها شرطة الأخلاق، بسبب مآخذ على لباسها.
ويقول خبراء إن الغضب الشعبي العارم يتغذّى أيضاً من التدهور الاقتصادي والقيود الاجتماعية القائمة التي يعاني منها السكان البالغ عددهم 85 مليوناً، منذ عقود.
وشهدت إيران احتجاجات في السابق، لكن الحركة الحالية غير مسبوقة لناحية مدّتها واتّساع نطاقها على صعيد المحافظات والطبقات الاجتماعية والمجموعات الإثنية، كما والمطالبة العلنية بوضع حد للنظام الديني.
فقد أُحرقت صور للمرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وسارت نساء في الشوارع من دون غطاء على رؤوسهن، كما سجّلت صدامات بين متظاهرين وقوات الأمن.
وتتّهم إيران قوى أجنبية معادية بتأجيج ما تصفها بـ «أعمال شغب»، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء لهما، وأيضا فصائل كردية إيرانية معارضة تتخذّ من العراق مقرّاً، وقد استهدفتها إيران مراراً بضربات صاروخية وبواسطة مسيّرات.
وفي ما يبدو رداً على الاحتجاجات، أعلن المدعي العام السبت إلغاء شرطة الأخلاق، لكن معارضين شككوا بالإعلان في ظلّ استمرار تطبيق قانون الحجاب الإلزامي، وكونه صدر ردّاً على سؤال في مؤتمر صحافي، لا في إعلان رسمي من الجهات التي تتبع لها الشرطة.
وتقول شادي صدر، المشاركة في تأسيس مجموعة «العدالة من أجل إيران» التي تدفع باتّجاه المحاسبة عن الانتهاكات الحقوقية ومقرّها لندن، «كان واضحاً جداً منذ البداية أن الاحتجاجات لم تكن من أجل الإصلاح أو ضد شرطة الأخلاق بل كانت تستهدف النظام برمّته».
وتضيف لوكالة فرانس برس «ما يحدث هو تحدٍّ جوهري للنظام»، مضيفة أنه «يدرك أنه يواجه تهديداً حقيقياً من المحتجين».
بعد اجتماعه مع معارضين إيرانيين في المنفى الشهر الماضي، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما يجري في إيران، بـ «ثورة» جيل من «الشابات والشبان لم يعرفوا غير هذا النظام».
«لم يسبق أن بدا أكثر ضعفاً»
يقول كسرى عربي، كبير خبراء شؤون إيران في معهد «توني بلير للتغيير العالمي»، «المزاج في إيران ثوري»، مشيراً إلى عدد متزايد من المعارضين للنظام خلال السنوات الأخيرة.
ويتابع «يمكنهم أن يحاولوا قمع المحتجين، لكن لا يمكنهم قمع المزاج الثوري».
والجمهورية الإسلامية قائمة في إيران منذ أن أسسها آية الله روح الله الخميني في العام 1979 بعدما أطاح بنظام الشاه الذي كان قريباً من الغرب.
وفرضت الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها سياسات جديدة، وقوانين الشريعة الإسلامية، وبعد سنوات قليلة، إلزامية وضع الحجاب للنساء في الأماكن العامة.
وتتّهم مجموعات حقوقية النظام بانتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك إعدامات خارج نطاق القانون وعمليات خطف في الخارج وفرض الإقامة الجبرية على رعايا أجانب.
وبحسب منظمة العفو الدولية، أصبحت إيران البلد الأكثر تطبيقاً لعقوبة الإعدام في العالم، بعد الصين.
وبحسب منظمة «حقوق الإنسان في إيران» ومقرها النروج، أعدمت طهران هذا العام أكثر من 500 شخص.
ويشكّل ملف إيران النووي نقطة خلاف أساسية بين الجمهورية الإسلامية والغرب، فيما تتهم إيران من خصومها، وبينهم دول عربية، بمحاولة مدّ نفوذها في الشرق الأوسط، عبر حلفائها في لبنان والعراق، والتدخّل في النزاعين السوري واليمني.
من جهة أخرى، عزّزت إيران أخيراً علاقتها مع موسكو وزوّدت القوات الروسية بمسيّرات بكلفة زهيدة استخدمت في هجمات على كييف وغيرها من المدن الأوكرانية، ما أثار تنديداً دولياً.
على الرغم من ذلك، التحدي الأكبر الذي تواجهه الجمهورية الإسلامية يتواجد في الداخل الإيراني.
وقال الباحث في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي» كريم ساجد بور لصحيفة «فورين أفيرز» الأميركية «لم يسبق أن بدا النظام الإيراني في سنواته الـ43 أكثر ضعفاً» من اليوم.
- «آلة قمع»
وتتصدّى السلطات للاحتجاجات بما وصفته منظمة العفو الدولية بـ «آلة قمع»، وتستخدم الرصاص الحي وتلجأ الى توقيفات واسعة النطاق.
وتقول منظمة «حقوق الإنسان في إيران» إن 448 شخصاً على الأقل بينهم نحو ستين تقل أعمارهم عن 18 عاماً و29 امرأة قتلوا في جميع أنحاء البلاد بأيدي قوات الأمن خلال قمع التظاهرات.
وسقط أكثر من نصف القتلى في مناطق تعيش فيها أقليتا الأكراد والبلوش وتشهد احتجاجات عنيفة، وفق المنظمة.
وأسفر قمع التظاهرات عن اعتقال نحو 14 ألف شخص بحسب الأمم المتحدة، بينهم شخصيات فنية وثقافية على غرار مغني الراب توماج صالحي الذي يمكن أن يحكم عليه بالإعدام في حال أدين.
وأصدر القضاء الإيراني حتى الآن ستة أحكام بالإعدام مرتبطة بالاحتجاجات، في خطوة رأت «منظمة حقوق الإنسان في إيران» أنها «محاكمات صورية» في غياب محامين.
وبحسب المنظمة، يواجه 26 شخصاً، بينهم ثلاثة قصّر، خطر صدور أحكام بإعدامهم شنقاً.
لكن كل هذا لا يعني أن النظام على وشك السقوط، وفق شادي صدر.
وتقول «تفكيك نظام على غرار الجمهورية الإسلامية مهمة بالغة الصعوبة»، متطرّقة إلى «عناصر مفقودة» تحول دون النجاح في هذه المهمة، بينها تنظيم أفضل للمحتجين واستجابة دولية أقوى.
«سننتصر»
وخلافاً للتحرك الذي قاده الخميني للإطاحة بالشاه في سبعينيات القرن الماضي، لا يوجد قائد للحركة الاحتجاجية الحالية.
لكن عربي يشير إلى شخصيات من مناطق مختلفة تشكّل مصدر إلهام للمحتجين، بينها الناشط في الدفاع عن حرية التعبير حسين رونقي الذي أطلق سراحه في نوفمبر بعدما أضرب عن الطعام شهرين، والمعارض البارز ماجد توكلي، الذي لايزال قابعاً في الحبس، والناشطة المخضرمة في الدفاع عن حقوق النساء فاطمة سبهري.
ويقول «هذه الاحتجاجات ليست بلا قيادة»، لأن المتظاهرين يتحركون على أساس أنهم «في خضم ثورة لا رجعة فيها».
من سجن إوين في طهران، أكدت الناشطة الحقوقية نرجس محمدي التي اعتقلت قبل بدء الاحتجاجات «مواصلة النضال».
وجاء في رسالة سلّمتها عائلتها إلى البرلمان الأوروبي «أنا واثقة من أننا سننتصر».