... باسيل خسر بالنقاط وميقاتي لم يربح بالضربة القاضية. خلاصةٌ ارتسمت من مجريات ومآل الجلسة التي عقدتها أمس حكومة تصريف الأعمال بـ «قبعةٍ» رئاسية اعتمرتْها للمرة الأولى منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (1 نوفمبر الماضي)، وبقوةِ دفْعٍ سياسية من «حزب الله» رفدتْ رئيسها نجيب ميقاتي بجرعة دعْمٍ «من كيس» حليفه المسيحي (للحزب) أي التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل الذي تَجَرَّع انتكاسةً بطعْم المطاحنة الصامتة حول ملف الانتخابات الرئاسية وحساباتها.
فباسيل لم «يَهْنأ» بانتصارٍ «دفتري» عمّر لبضع ساعات، وتحديداً منذ صدور بيان «بلوك» الثلث المعطّل الذي ضمّ 9 وزراء (الوزراء المحسوبون على التيار والوزير أمين سلام) الذي أعلن رفض حضور الجلسة «من منطلق دستوري وميثاقي كما عدم موافقتنا أو قبولنا بأي من قراراتها»، حيث بدا رئيس «التيار الحر» وكأنه سدّد ضربة موجعة لرئيس الحكومة، وقارَعَ اصطفافاً يضمّ الثنائي الشيعي الرئيس نبيه بري وحزب الله والزعيم الدرزي وليد جنبلاط ويَعتبر التيار أنه حوّل حكومة تصريف الأعمال «متراساً» للضغط في الملف الرئاسي ومحاولة حصْد النقاط لزعيم «المردة» سليمان فرنجية عبر «الحفْر» لباسيل الذي يُعانِد انتخاب الأخير ولا يكشف «أوراقه» الحقيقية في هذا الاستحقاق.
لكن حسابات الحقل بالنسبة إلى باسيل لم تتطابق مع حسابات البيدر، إذ حملت ساعاتُ الليل وصولاً للدقائق التي سبقت موعد التئام مجلس الوزراء مفاجأة صاعقة، انقلبتْ معها معادلة الوزير «حصان طروادة» الذي وفّر نصاب الثلث زائد واحد المانع لانعقاد حكومة الـ 24 وزيراً، إلى «الوزير الملك» الذي سُحب من «جبهة التسعة» وأمّن الثلثين اللذين أتاحا افتتاح جلسةٍ أفضت في بُعدها التقني لإقرار عدد من البنود الملحة مثل مستحقات المستشفيات، وتوفير اعتمادات لشراء أدوية السرطان وحليب الأطفال، وتحرير أموال هيئة «اوجيرو» لضمان عدم توقف قطاع الاتصالات والانترنت، ولكن تشظياتها السياسية أنْذَرتْ بـ «صبّ الزيت على نار» خلافات كامنة واستيلاد أخرى، فيما البلاد على كف الارتطام المميت.
وحملت وقائع الجلسة في ذاتها مؤشراتٍ إلى حجم النكسة التي أصابتْ باسيل، إذ أوْفد وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار إلى السرايا الحكومية حيث دخل الجلسة بعد التأكد من أن وزير الصناعة جورج بوشكيان «نَزَحَ» من بلوك التسعة إلى «معسكر الثلثين»، وحاول افتعال مشكل كبير لتفجير اجتماع مجلس الوزراء، حين علا صوته متوجهاً لرئيس الحكومة «بدّك توقف الجلسة وأنا أمثّل رئيس الجمهورية وهذه الجلسة غير دستورية»، قبل أن ينهض عن كرسيه ويقترب من ميقاتي حيث كاد أن يحصل احتكاك حال دونه تدخّل وزير الثقافة محمد وسام مرتضى الذي هدأ الأمور، ليقول ميقاتي لحجار «أنا أدير الجلسة ولستَ أنتَ من تقرر وعليك أن تجلس».
وبعدها خرج حجار من الجلسة ليعلن «طلبت من رئيس حكومة تصريف الأعمال والوزراء الحاضرين التراجع خطوة إلى الوراء ولكن لم ألق أي تجاوب، فسجّلت موقفي وخرجتُ. كان من الأجدى لنا أن نتشاور كحكومة ونتفق على كيفية إدارة البلاد في هذه المرحلة لغاية انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة، ولنترك ملف الرئاسة للنواب ومجلس النواب».
وفي كلمته في مستهل الجلسة وبعد انتهائها، بدا ميقاتي مستشعراً وطأة محاولات جرّه نحو استقطاب طائفي يضعه بمواجهة المكوّن المسيحي، في ضوء التعاطي مع المعركة التي لاحت بوجه انعقاد حكومة تصريف الأعمال في ظل فراغ رئاسي - وهي سابقة في لبنان - على أنها «مسيحية»، رغم اعتبار خصوم رئيس التيار الحر أنها «معركة باسيل» وأن تقاطُع الأطراف المسيحيين الوازنين على رفْض انعقاد جلسة أمس كان من منطلقات مختلفة، بدليل أن «القوات اللبنانية» لم تذهب نحو معارضةٍ كاملة لأي اجتماع لحكومة تصريف الأعمال بمقدار ما أن الرفض كان لأن توسعاً حصل في مفهوم «الضرورات القصوى» لانعقادها عبر جدول أعمالها الفضفاض، ناهيك عن أن أي إشارةٍ في اتجاه «التطبيع» مع الفراغ سواء عبر السلطة التنفيذية أو التشريعية سيعني منْح معطّلي الانتخابات الرئاسية المزيد من الأوراق والوقت لتحقيق اجندتهم.
فقد أكد ميقاتي في مُستهل اجتماع الحكومة «أن الجلسة القائمة اليوم استثنائية بكل معنى للكلمة والأكثر استثناء فيها هو الملف الطبي الذي كان شرارة عقدها، وهو المتعلق بحقوق مرضى السرطان وغسيل الكلى»، وأضاف: «لولا هذا الملف لما دعونا الى هذه الجلسة، لكن اذا كان البعض يتلطى وراء الدستور والعيش المشترك فنقول له انهما لا يتحققان بموت الناس، وبكل الاحوال لن يحصل ذلك عن يدنا».
وتابع: «نحن نعلم انه في قانون العقوبات، هناك بند يختصّ بجرائم الامتناع. واذا كنا سنجاري الداعين الى عدم عقد هذه الجلسة، فسنكون مشاركين في جريمة قتل بالامتناع، وهذا أمرٌ لن يحصل.
هذه الرسالة أوجهها لجميع اللبنانيين، ولكل المراجع الروحية والنيابية والسياسية والاجتماعية. فإذا كانوا يريدون للبلد أن ينهار نهائياً، فانا لست مسروراً بهذه المهمة التي أتلقى فيها مئات الطلبات وأنا عاجز عن تنفيذها».
وختم «أكرّر القول انني لن أساهم في ارتكاب جريمة قتل المرضى بالامتناع، وليتحمل من يريدون منعنا من تنفيذ واجباتنا والقيام بالمهام المطلوبة منا مسؤولية جريمة القتل هذه. ماضون في تحمل مسؤولياتنا مهما بلغت الصعوبات، وأكرّر بالدعوة الى تسريع عملية انتخاب رئيس الجمهورية».
وبعد الجلسة اكد ميقاتي «أتمنى أن يحضر جميع الوزراء المرة المقبلة التي نعقد جلسة فيها عند الضرورة القصوى»، وقال «ليس هناك» وزير ملك «فنحن جميعاً خدم للبنانيين»، كاشفاً أنه دعا إلى «اجتماع بعد الظهر للوزراء الذين قاطعوا الجلسة كما الذين حضروا من أجل الاتفاق على آلية للعمل».
وشخصت الأنظار بعد الجلسة على الخطوة التالية للتيار الحر، والأدوات التي يملكها للردّ على ميقاتي ومن خلفه الثنائي الشيعي، وسط انطباع بأن يديْه غير طليقة بخيارات مثل جر وزرائه إلى الاعتكاف عن تصريف الأعمال مع ما قد ينطوي عليه ذلك من تكليف وزراء بالإنابة بعملهم، واقتناعٍ بأن ما بعد «انتزاع» ميقاتي أمس شرعيةً لـ «حكومته الرئاسية» من فوق كل صراخ فريق عون لن يكون كما قبله على أكثر من صعيد.
وإذ اعتُبر حضور وزيرين محسوبين على التيار (حجار ووليد نصار) الاجتماع التشاوري الذي عقده ميقاتي بعد ظهر أمس وضم 14 وزيراً، على أنه مؤشر «حمال أوجه»، لم يكن ممكناً الجزم بما بعد 5 ديسمبر وسط إشارة أطلقها وزير التربية عباس الحلبي إلى «أننا ربما نكون مدعوين الأسبوع المقبل إلى جلسة حوارية أخرى للوزراء قبل اجتماع لجلسة مجلس الوزراء»، وإعلان نصار «نتخذ القرار بما خص حضور جلسات مجلس الوزراء من عدمه كل جلسة بجلستها».
ولا شك أن العلاقة المهتزّة بين «التيار» و«حزب الله» ستكون تحت المجهر في الأيام المقبلة، في ضوء مضي الأول باتهام الحزب بأنه يحاول فرض فرنجية رئيساً رغم معارضة 85 في المئة من النواب المسيحيين لذلك، وأيضاً استخدام موضوع اجتماع الحكومة وحتى ترْك الوضع «ينهار» في سياق الضغط لتمرير زعيم «المردة» وصولاً لاعتبار النائب اسعد درغام، ان «الثنائي الشيعي يُعطّل جلسات انتخاب الرئيس ويُراهن على تعبنا من أجل التفاوض على مرشحه فرنجية. وأقول له من باب النصيحة ان هذا الامر يزيد من نقمة المسيحيين عليه».
وفيما نقلت صحيفة «الأخبار» عن مصادر رفيعة المستوى، في التيار، ان «هذه ليست مسألة عابرة في العلاقة بين التيار وحزب الله. تفاهمنا قائم على أمور استراتيجية وهذا بالنسبة إلينا هو كالسلاح بالنسبة إلى الحزب.
وجودنا ودورنا هما سلاحنا ولن نسمح لأحد بالمسّ بهما»، بدا من المبكر التكهن بمآل العلاقة بين الطرفين، وسط مناخاتٍ عبّرت عنها مصادر غير بعيدة عن الحزب، رفضت اعتبار أنه يفرض أي مرشح، مشيرة إلى أن باسيل يمتنع عن تحديد أي خيارات يريدها للرئاسة، وأن الحزب منفتح على كل ما من شأنه ترييح البلد في الداخل ومع الخارج وفق مسلّمة «رئيس تَطْمئن له المقاومة ولا يطعنها في الظهر».
ولا تقلّ دلالةً، «الصفعة» التي تلقاها باسيل من شريكه في تكتله النيابي حزب الطاشناق الذي وفّر نصاب انعقاد جلسة الحكومة بعدما كان اسم بوشكيان ورد في بيان التسعة الذين اعلنوا مقاطعة الجلسة.
وفي موازاة تقارير تحدّثت عن أن بوشكيان تفاجأ بورود اسمه بين الوزراء التسعة، تم التعاطي مع التسريبات من إعلام «التيار الحر» عن أن تصرف وزير الصناعة وحضوره الجلسة، تم بمبادرة شخصية وبمعزل عن قرار حزب الطاشناق على أنه بمثابة محاولة للتخفيف من الإحراج الذي سيرتّبه «تمرير» هذه الضربة من باسيل وتفادي «الطلاق» مع الحزب الأرمني الذي يوفّر لتكتل «لبنان القوي» وزناً عددياً يستخدمه في معاركه.
أما الأضرار الأخرى لجلسة «بمَن حضر» أمس، فستتبلور تباعاً سواء على صعيد «حرق المراكب» وتفحُّمها بين «التيار الحر» وميقاتي، أو تعميق التصدع بين باسيل وبري، وكل ذلك سيزيد من تعقيدات الملف الرئاسي الذي يضرب موعداً مع «لا» جلسة انتخاب جديدة تحمل الرقم 9 بعد غد، فيما البلاد تلاطم أمواجاً عاتية ظهّرها جنبلاط في 4 صور لأمواج وسفن تغرق نشرها عبر حسابه في «تويتر»، وعلّق عليها «البلاد اليوم في ظل مقاطعة مجلس الوزراء ورفض الحوار ورفض الاصلاح».