للمرة الأولى يسمّي البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي «الأشياء بأسمائها» في ما خص الملف الرئاسي بأبعاده العميقة ذات الصلة بربْط لبنان بمحور الممانعة، كاشفاً «ميني محضر» اللقاء الذي جمعه يوم الأربعاء الماضي في روما مع سفراء دول عربية والذي يثبّت تلازُم مساريْ الإصلاح المالي - الإداري وتصحيح التموْضع الاستراتيجي لـ «بلاد الأرز» ومعالجة مسألة سلاح «حزب الله» واستعادة الدولة مقوّماتها.
وفي عظة الأحد، خطفتْ مواقف الراعي من الاستحقاق الرئاسي الأضواءَ من «الغطاء» غير المباشر الذي وفّره للجلسة المثيرة للجدل السياسي التي تعقدها اليوم «حكومة تصريف أعمال الناس» وهي الأولى لها في زمن الفراغ الرئاسي، ما عَكَسَ أن الكنيسةَ تواكب المرحلةَ الأخطر التي يمرّ بها لبنان وفق مقاربةٍ تركّز على الحلّ الشامل للأزمة «الوجودية» التي انزلق إليها الوطن الصغير الذي تتقاذفه أمواجُ الانهيار الكبير.
فالبطريرك العائد من الفاتيكان اتّهم «المسؤولين السياسيين عندنا» بأنهم «أوصلوا الدولة إلى تفككها، والشعب إلى حالة الفقر المدقع والحرمان». وقال «ها معطلو نصاب جلسات مجلس النواب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يمعنون في ذلك، وكأن العمل السياسي أصبح وسيلة للهدم والقهر».
وأضاف متناولاً اللقاء الذي جمعه مع سفراء كل من السعودية، الكويت، قطر، البحرين، الامارات، عُمان، الاردن، اليمن، فلسطين، السودان والعراق في سفارة لبنان في روما الأسبوع الماضي: «لمسْنا استعداداً جامعاً لمساعدة لبنان، البلد الذي يكنون له المحبة، لكننا وجدنا لديهم في المقابل، عتباً كبيراً على النواب الذين يمتنعون، عن انتخاب رئيس للجمهورية لأسباب ليس لها علاقة بمصلحة لبنان. وتساءلوا بأسى كيف أوصل المسؤولون بلادنا إلى هذه المرحلة من التدهور، وصمّوا آذانهم عن كل نصائح الدول الشقيقة والصديقة للمصالحة الوطنية العميقة».
وتابع: «كان واضحاً من مجمل الحديث أن مساعدة لبنان الفعلية مرتبطة بانتخاب رئيس أولاً، وبتأليف حكومة قادرة على العمل وإجراء الإصلاحات، وبعودة لبنان إلى سياسته المحايدة والسلمية والخروج من المَحاور الإقليمية، إلى بسط سلطة الدولة على كامل ترابها الوطني، والتنفيذ الجدي للقرارات الدولية، وأن تكون مؤسسات الدولة مستقلّة وتعمل بانتظام حسب القوانين».
وأردف «أن بداية تكوين السلطة في أي بلد تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية، لكن القوى المستقوية عندنا، حوّلت الرئاسةَ جبهةً سياسية في مَحاور المنطقة وقررت، رغم معارضة الرأي العام، الاستئثار بها لتبقى دولة لبنان جزءاً لا يتجزأ من محور الممانعة وحروبها واضطراباتها المستجدة، وتضع لبنان في صفوف الدول المُعادية للأسرتين العربية والدولية وجزءاً من العالم المتخّلف حضارياً واقتصادياً ومالياً على غرار وضع سائر دول الممانعة وقد كانت في ما مضى دولاً موحّدة ومستقرة وعلى طريق النمو».
وأعلن «من المؤسف أن هذه القوى وحلفاءها لا تعير أي اهتمام لمصلحة لبنان. وهي مستعدة لاستنزاف الوقت أشهراً وربما سنوات للحصول على مبتغاها. ولذلك ندعو مجدداً رئيس مجلس النواب المؤتمن على إدارة الجلسات وتأمين الظروف الدستورية والنصاب الطبيعي الذي أشارت إليه المادة 49 من الدستور للإسراع في إجراء الانتخابات الرئاسية، كي لا يفقد المجلس النيابي مبرر وجوده كمركز لانبثاق السلطة».
واعتبر «ان هذا الاستخفاف بانتخاب رئيس للدولة يضع الحكومة ورئيسها بين سندان حاجات المواطنين ومطرقة نواهي الدستور»، وقال «فحكومة تصريف الأعمال هي حكومة تصريف أعمال الناس، لا حكومة جداول أعمال الأحزاب والكتل السياسية. ونتمنى على رئيس الحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، الذي طالما نأى بنفسه عن الانقسامات الحادة، أن يصوّب الأمور وهو يتحضر مبدئياً لعقد اجتماع (اليوم) الإثنين. فالبلاد في غنى عن فتح سجالات طائفية، وخلق إشكالات جديدة، وتعريض الأمن للاهتزاز، وعن صراع مؤسسات، واختلاف على صلاحيات، ونتمنى على الحكومة خصوصاً أن تبقى بعيدة عن تأثيرات من هنا وهناك لتحافظ على استقلاليتها كسلطة تنفيذية، ولو لتصريف الأعمال».
وإذ رأى «أن بقاء نحو مليوني نازح سوري وغيرهم يغيرون هوية لبنان ونظامه وديمغرافيته ونسيج شعبه، ويشكلون خطراً على أمنه»، ناشد «دولة رئيس الحكومة طرح هذا الموضوع دولياً، لا سيما في القمة العربية الصينية في التاسع من الشهر الحالي في السعودية».
وفيما اعتبر موقع «لبنان 24» (التابع لميقاتي) أن الراعي في عظته «كان حاسماً، وهو بذلك قطع الطريق على أي محاولة لتعطيل تصريف أعمال الناس، والبطريرك قال كلمته، وهزّ عصاه، ووضع النقاط على الحروف».
وبعد الكلام البطريركي«لم يعد يحقّ لأحد التشدّق بميثاقية مفقودة لجلسة لم تكن لتُعقد لو لم يُدّق ناقوس الخطر الصحي»، كشف ميقاتي أنه«اتصل السبت بالبطريرك للتشاور في الوضع وشَرح له الظروف التي حتمت الدعوة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء»، مؤكداً أنه «في دعوته الى اجتماع الحكومة يأخذ في الاعتبار هواجس البطريرك الراعي وموقفه وسيسعى بالتأكيد الى أن تبقى الحكومة بعيدة عن تأثيراتٍ من هنا وهناك لتحافظَ على استقلاليّتِها كسلطةٍ تنفيذية، ولو لتصريف الأعمال، كما دعا البطريرك، في عظته».
وجاء ما كشفه ميقاتي في بيان صدر عن مكتبه الإعلامي ونفى فيه«ما يروجه بعض الإعلام العوني الهوى (في إشارة إلى التيار الوطني الحر) والانتماء والتمويل عن اتصال جرى بين البطريرك الراعي ودولة رئيس الحكومة بعد عظة غبطته في قداس الأحد»، مؤكداً «أن ما يحاول الإعلام العوني إلباسه للبطريرك الماروني من موقف غير صحيح على الاطلاق».
وبدا «تصحيح» رئيس الحكومة جدول أعمال جلسة اليوم وسحب 40 بنداً منه ليُبقي على 25 تحمل الطابع الطارئ ذات الصلة بشؤون الناس الحياتية والصحية في سياق تفادي تحويل اجتماع حكومة تصريف الأعمال التي اعتُبرت مستقيلة بعد انتخابات مايو النيابية «جاذبة صواعق» طائفية - سياسية - دستورية في ضوء الاعتراض بالصوت العالي من الرئيس السابق ميشال عون وحزبه (التيار الحر) على التئامها بوصْفه ضرباً للميثاقية واتفاق الطائف ومخالفة للدستور ومحاولة لعزْل التيار.
وكان بارزاً على وقع تسليمٍ بأن الجلسة ستنعقد اليوم وبحضور وزراء الثنائي الشيعي «حزب الله» - الرئيس نبيه بري، ما لم تطرأ مفاجأة غير محسوبة، إطلاق الرئيس عون موقفاً اعتبر فيه أن «رئيس حكومة تصريف الأعمال كشف مرّة جديدة، من خلال الدعوة التي وجهها لعقد جلسة للحكومة الاثنين، عن الأسباب الحقيقية التي جعلته يمتنع، طوال خمسة أشهر متتالية، عن تأليف الحكومة التي كُلف بتشكيلها، ألا وهي محاولة الاستئثار بالسلطة وفرض إرادته على اللبنانيين خلافاً لأحكام الدستور والأعراف والميثاقية».
وأعلن «أن التذرّع بتلبية الحاجات الاستشفائية والصحية والاجتماعية وغيرها من المواضيع التي أوردها رئيس حكومة تصريف الأعمال في جدول أعمال الجلسة التي دعا إليها، لا يبرّر له خطوته التي تُدخل البلاد في سابقة لا مثيل لها في الحياة الوطنية اللبنانية، مع ما تحمله من تداعيات على الاستقرار السياسي في البلاد».
وحذّر «ممّا يمكن أن يترتّب على هذه المخالفة الدستورية والميثاقية»، داعياً «الوزراء إلى اتخاذ موقف موحّد يمنع الخروج عن نصوص الدستور التي تحدّد بوضوح دور حكومات تصريف الأعمال، لأن أي اجتهاد في هذا الصدد هو انتهاك واضح للمبادئ الثوابت التي أرستها وثيقة الوفاق الوطني وكرّستها مواد الدستور».
وكانت «القلوب المليانة» بين رئيس الحكومة وفريق عون انفجرت ليل السبت مع تغريدة لنائبة رئيس التيار الحر مي خريش توجّهت فيها إلى ميقاتي، بالقول «الأزمة الاجتماعية التي تتحجج بها ليست مستجدة. أنت رئيس حكومة مستقيلة والدستور يمنعك من دعوة مجلس الوزراء بغياب رئيس جمهورية. من أين استرجعتَ حقاً ساقطاً وساقط معه تكليفك»؟
وأضافت «انتبِه من الحقد لأنه يجر للفتنة».
وسارع المكتب الإعلامي لميقاتي للردّ، معتبراً أنه «في سياق حملات التّحريض التي يقوم بها التيار الحر عقب دعوة رئيس الحكومة إلى جلسة لمجلس الوزراء الاثنين، صدر كلام لنائبة رئيس التيار يحمل في طيّاته تهديداً وتحريضاً وهو بمثابة اخبار إلى الأجهزة القضائية المختصة».
ومساء برز تطور مفاجئ مع تبلور «بلوك» الثلث المعطّل الذي يمنع انعقاد حكومة تصريف الأعمال، بحال إصرار كل الوزراء التسعة حتى اللحظة الأخيرة على موقفهم الرافض المشاركة في الجلسة.
وإذ اعتُبر موقف سبعة من الوزراء المحسوبين على فريق عون (6 مسيحيين ودرزي) متوقَّعاً، فإن المفاجأة الكبرى جاءت من وزير الاقتصاد أمين سلام (السني) الذي أكمل نصاب الثلث المانع لتأمين نصاب الثلثين الضروري لانعقاد حكومة الـ 24 وزيراً، كما أتت بمثابة «نصف مفاجأة» انضمام وزير الطاشناق جورج بوشكيان للثلث المعطّل.
وفيما حددّ بيان مشترك صدر عن الوزراء عبدالله بوحبيب، هنري خوري، موريس سليم، امين سلام، هكتور حجار، وليد فياض، وليد نصار، جورج بوشيكيان وعصام شرف الدين الأسباب الموجبة لقرارهم «بعدم الموافقة على جلسة مجلس الوزراء من منطلق دستوري وميثاقي كما عدم موافقتنا أو قبولنا بأي من قراراتها»، فإن مستشار رئيس الحكومة فارس الجميل أكد أن الجلسة قائمة في موعدها «وليتحمّل كل طرف مسؤوليته».
وعَكَسَ هذا المناخ «ضراوة» شد الحبال حول الجلسة الحكومية والذي لا يمكن فصله عن الصراع الكبير حول الاستحقاق الرئاسي، بعدما اعتُبر لعب ورقة التئام الحكومة في الطريق لمحاولة عقد جلسة تشريعية للبرلمان العاجز منذ 8 جلسات عن انتخاب رئيس، في إطار زيادة منسوب الضغط المتعدد الاتجاه على رئيس «التيار الحر» جبران باسيل خصوصاً ربطاً بمعاندته تبني المرشح رقم واحد لـ «حزب الله» وبري، والذي يؤيد ميقاتي أيضاً وصوله، أي زعيم «المردة» سليمان فرنجية.
وفي حين سيشكّل عدم انعقاد الجلسة انتكاسةً سياسية لميقاتي، فإن أسئلة برزت حول ما أفضى الى هذه النتيجة بعدما كان رئيس الحكومة واثقاً من توافر النصاب العددي والميثاقي للجلسة، وسط اتجاه الأنظار إلى اتصالات الليل الطويل لمعرفة إذا كان ما كُتب قد كُتب على صعيد «تطيير» الجلسة وما سيرتّبه ذلك من ارتدادات ليس فقط على صعيد البنود الطارئة وكيفية «إنقاذها» بل أيضاً على مستوى العلاقات بين ميقاتي وأكثر من طرف سياسي غير «التيار».