... في البرلمان «خنادق» تتعمّق على ضفتيْ الموالاة والمعارضة مع كل جلسةِ انتخابٍ رئاسية تنتهي إلى تكريسِ حال الاستعصاء السياسي على اجتراحِ مَخْرَجٍ لاستحقاقٍ صار عنواناً لأزماتٍ كأداء كل ست سنوات... وفي باريس «متاريس» أكثر ارتفاعاً ارتسمتْ على الجبهة الرئاسية داخل المعسكر الواحد (الموالاة) بين المرشّح من دون تسميةٍ حتى الساعة سليمان فرنجية والساعي لتوافق عليه يبدأ من «الخلية الأم» أي فريقه، وبين رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الذي يحاول أن يكون «القفلَ والمفتاح» في سِباقٍ أُقصي منه ويُعانِد التسليم به.

هكذا بدا المشهد في بيروت ومنها، حيث كانت العاصمةُ عيناً على «ساحة النجمة» التي شهدت «عصفاً سياسياً» حول نصابِ الحضور والانتخاب الرئاسي «نُبِشت» فيه دفاتر الحرب وتجارب سابقة وطغى غبارُه الكثيف على مجرياتِ جلسةِ الـ لا انتخاب السادسة ومفارقاتها، وعيْناً أخرى على باريس التي يزورها باسيل، باحثاً مع «خلية الأزمة» المعنية بالملف اللبناني الاستحقاقَ الرئاسي «وأخواته» والتي بدا أنه اختار أن «يفجّر» منها آخِر الجسور مع فرنجية وإمكان تغطية انتخابه وفق رغبةِ «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري.

وفيما كانت جلسةُ البرلمان التي تَكَرَّرَ سيناريو تَوافُرَ نصاب دورتها الأولى (الثلثان) وتطييره قبل الدورة الثانية تشهد اقترابَ نواب كتلة بري أكثر من تثبيتِ خيار رئيس تيار «المردة» كمرشحٍ «مفضَّل» مع وقف التسمية ومع إشاراتٍ إلى استعدادٍ لانتخابه بحال جرى تَوافُقٍ حوله ولو لم يَسِرْ به باسيل - على عكس موقف «حزب الله» المتمسّك بأن ينزل بحليفيْه يداً بيد لانتخاب فرنجية - كان رئيس «التيار الحر» يسحب «صاعق» قنبلةٍ رئاسية خلال لقاءٍ حزبي داخلي في باريس تردّدت أصداؤه في بيروت في أكثر من اتجاه.

وارتكزتْ الـ «لا الكبيرة» من باسيل على وصول فرنجية والتي انكشفت في تسجيلٍ صوتي جرى تسريبه على مفصليْن: الأول أن انتخاب زعيم «المردة» يعيدنا إلى معادلة «الـ 90 (الرئيس الشهيد رفيق) الحريري - بري - (الرئيس الراحل الياس) الهراوي ولكن اليوم بنسخة أخرى بري - (الرئيس نجيب) ميقاتي - فرنجية».

والثانية «ان لا رئاسة من دوننا... بلانا ما فيهم يجيبوا رئيس للجمهورية. ولم يَعُدْ بإمكان أحد أن يتخطانا وعندما أفكر على المستوى العالي (بدي استحي من حالي) وستقولون لي، تحمّلنا كلّ هذا الضغط حتى تأتي بفرنجية رئيساً؟».

وإذ وضع باسيل عدم ترشحه في سياق «رغبتنا في تجنّب الفراغ»، مؤكداً أن الهدف من الورقة البيضاء في جلسات الانتخاب ضمان التوصل إلى رئيس «عليه القدر والقيمة»، قال «لا تَجَنَّبْنا الفراغ ولا يرضون برئيس عليه القدر والقيمة».

وأوضح «بالحِسبة السياسية، ربما لا نخسر إذا وصل فرنجية، فهو في زغرتا، عم يصغر، أمّا التيار فقد حصل على نوابٍ في مناطق جديدة. ورئيس المردة لا يشكل علينا خطراً ووصلتْنا الكثير من الضمانات لانتخابه وشو ما بدكم مطالب أعطوْنا إياها... وكل العالم قاتلي حالها عليّ وقول شو بدّك».

وأضاف: «أنا أفكر على المستوى العالي، ماذا أقول لكم إن انتخبتُ سليمان فرنجية؟ هل سيبني دولةً؟ المركز يحتاج إلى هيبة. وهل بإمكاني أن أعدكم بأنه سيحارب الفساد؟ أسهل شيء اليوم أن نسير بفرنجية ونأخذ ما نريده بالدولة والوزراء والحماية وحصتنا في النفط ونرتاح ست سنوات، ونعمل رئيس بعد 6 سنوات، ولكن اخترنا الطريق الأصعب لبناء دولة حقيقية وهو ما لا يمكن لفرنجية القيام به. والموضوع الذي نعمل عليه أن نجد اسماً ونؤمن له توافقاً و86 صوتاً».

وفيما أكد «انا لا يُضغط عليّ ولا أحد يحرجني واستبقتْ كل ذلك وقلت إن السيد حسن نصرالله لا يمون عليّ (في موضوع فرنجية)»، أوضح «عندما أقول لا أريد (الترشح) لا يعني انا متعفف بل لأنني أقدّر ما الوضع وأرى أنه لا يمكننا اليوم أن نعمل رئيس، فالمهمّ ليس فقط الوصول بل ان ننجح».

وإذ لم تتأخّر مواقف باسيل في استدراج ردّ عنيف من بري، الذي أعلن «في جميع الحالات ما كان الأمر عليه في العام 1990 نعتقد انه أفضل مما قُدم لنا في السنوات الست الماضية والذي يتلخص: (الرئيس ميشال) عون - باسيل - (المستشار الرئاسي سليم) جريصاتي»، فإن هذا «التسخين» كاد أن يزيح الاهتمام عن الجلسة التي عقدها البرلمان بحضور 112 نائباً من أصل 128، وشهدت أول تسمية لفرنجية الذي نال صوتاً واحداً، في مقابل 43 صوتاً لمرشح الأحزاب السيادية في المعارضة ومستقلين ميشال معوّض، و46 ورقة بيضاء و7 لعصام خليفة و3 للوزير السابق زياد بارود، و9 لـ «لبنان الجديد» وصوتا لميشال ضاهر (جرى بتسميته وهو الكاثوليكي كسْرُ عُرفِ مارونيّة الرئيس)، وورقتين ألغيتا كُتب على إحداهما «فالج لا تعالج بدها عصا».

ورغم تعاطي البعض مع الصوت الذي ناله فرنجية على أنه في إطار «تحميةٍ» لاقتراب داعميه من إنزال صوته بالاسم في صندوقة الاقتراع، فإن أوساطاً سياسية اعتبرت أن هذا الأمر لم يكن في هذا السياق باعتبار أن أي تظهير لدعْمٍ هزيل لزعيم «المردة» في البرلمان من شأنه أن يستنزفه تباعاً، ومعتبرةً أن معارضي وصول الأخير وبينهم «التيار الحر» من مصلحتهم نزول مؤيّديه به قبل ضمان توافق حوله لـ «حرْقه» ووضْعه في مواجهةِ معوّض كعنصريْن للتوازن السلبي الذي ينتهي بـ «شطْبهما» معاً من المعادلة الرئاسية وفتْح الطريق أمام الخيار الثالث الذي يتردّد أن باسيل يحاول أن يستولده من ضمن صفقةٍ تشتمل على الحكومة العتيدة رئاسةً وتوازناتٍ وهو ما لا يبدو أن ثمة استعداداً داخلياً ولا خارجياً لـ «التورط» فيه.

في موازاة هذا المعطى، وفي حين مضت قوى المعارضة في التبعثر بين دعم معوّض وتصويت التغييريين ونواب سنّة لـ «لبنان الجديد» وخليفة، فإن اللافت في جلسة أمس كان تراجُع مرشح الأحزاب السيادية ونواب مستقلين إلى 43 صوتاً بعدما كان لامس الخميس الماضي 50 وسط رهانٍ كان برز على أن يخرق هذا الحاجز أمس، وهو ما لم يحصل.

وقد عزا معوض هذا التراجع إلى «تدخلات حصلت مع مجموعة من النواب المستقلين»، مؤكداً «سنعالج هذه الوقائع انطلاقاً من المعطيات، وقد وصلنا الى اتفاق مبدئي بحاجة الى ترجمة سياسية مع نواب التغيير، والمعركة اليوم بين محاولة جدية للبننة الاستحقاق وبين محاولة لانتظار التسويات الخارجية والمساومات فالبعض ينتظر كلمة السر».

وسبق ذلك انطلاقة «متفجرة» لجلسة الانتخاب «من حيث انتهتْ» سابقتُها أي ردّ بري على سؤال لرئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل حول المادة الدستورية التي يستند إليها لاعتبار نصاب التئام جلسات الانتخاب بكل دوراتها هو 86 نائباً وليس 65 في الدورة الثانية وما بعد حين أجاب «مادّي إجرها من الشبّاك».

فالجميّل كرّر السؤال نفسه في معرض اعتباره أن نصاب الـ 65 هو المطلوب للدورة الثانية، داعياً البرلمان لتفسير الدستور في هذا الإطار، قبل أن يختم مداخلته متوجهاً إلى بري بأن ردّه في الجلسة السابقة «لم يكن يليق بك».

وفيما كان بري يجيب معترضاً على الشق الأخير من كلام الجميل، داعياً لشطبه من المحضر، ومؤكداً التمسك بنصاب الثلثين «كما تنص المادة 49» ومستشهداً بكل جلسات الانتخاب للرؤساء الـ 13 منذ الاستقلال وباعتباراتٍ ميثاقية، اندلع سجالٌ كبير بين نواب«الكتائب»والنائب قبلان قبلان (من كتلة بري) حين قال للجميل «العام 1982، أتوا بالنواب إلى البرلمان بالملالات ليعملوا النصاب وانتخبوا بشير الجميل».

عندها، ردّ النائب نديم بشير الجميل، بحدة وسانده النائب الياس حنكش، قائلاً أمام عدسات الكاميرات وعلى الهواء مباشرة «خلصنا منكن ومن الملالات تبعكن، كفى مسخرة».

في موازاة ذلك، كانت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا تعلن أنها التقت رئيس كتلة نواب«حزب الله» محمد رعد حيث جرى بحث«الضرورة الملحة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة تعمل بكامل فعاليتها للمضي قدماً في تنفيذ الإصلاحات لأن لبنان لا يملك رفاهية الوقت»، مؤكدة «أهمية تطبيق القرار 1701 بالكامل».

وأعلن نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم «اننا كحزب الله نريد رئيساً يعمل لأمرين أساسيين: يعمل في السياسة لاستقلال لبنان والمحافظة على قوته وقدرته وحماية أراضيه ومياهه وثروته وفي الاقتصاد يحمل مشروع خطة انقاذية يعمل على إقرارها في الداخل».

وشدد على أنه «يفترض أن ننتخب رئيساً للجمهورية يعتبر أن المشكلة المركزية في لبنان اقتصادية لا ان يُحْضِر لنا مشاكل أخرى مفتعلة تَصْرفنا عن المشكلة الاقتصادية وتكون سبباً لتدخل الأجانب في لبنان، وندعو لاختيار رئيس نتوافق عليه ونتفق عليه، على أن يكون لديه همّ مركزي اسمه المشكلة الاقتصادية».

وختم «لم نعلن حتى الآن المرشح الذي سنصوت له رغبة منا بإعطاء المزيد من الوقت للحوار مع القوى السياسية المختلفة والكتل النيابية المختلفة، علنا نستطيع اختيار الرئيس المناسب بالتعاون والتشارك. والورقة البيضاء التي نضعها في صندوق الاقتراع هي إشارة إيجابية وفتح الطريق للاتفاق».