على بُعد ساعات معدودة من مغادرته القصر الجمهوري في بعبدا، ظَهَرَ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في صورتين: واحدة منتشرة على الطرق تحت شعار «مكملين»، وهي الدعوة التي وجّهها حزبُه «التيار الوطني الحر» لمُناصريه لمواكبة خروج «الجنرال» من بعبدا وعودته إلى منزله في الرابية اليوم، أي عشية انتهاء ولايته غداً. والصورة الثانية هي تقديمه أوسمة لبعض «المختارين»، ومن الذين عملوا معه على مدى ستة أعوام ودافعوا عنه من سياسيين وأمنيين ومدراء عامين وإعلاميين، وهو حق لرئيس الجمهورية، كما هي الحال في فرنسا.

صورتان لرئيس جمهوريةٍ غادَرَ بعد ستة أعوام من حكمه المضرج بالتعطيل والإنهيار والأزمات غير المسبوقة، وتالياً فلا يبقى من صورة العهد إلا رغبة تياره في إستثمار وجود رئيسه وعماده الى ما بعد انتهاء الولاية، وصورة الرئيس يقدّم أوسمةً لمجموعة من المقربين منه.

قد تحفل مذكرات كل رؤساء الجمهورية بكثير من العثرات والإنجازات والهفوات، ولن يكون متاحاً لعون الذي كان يدوّن الكثير من المَحاضر ويسجّل له فريقه لقاءاته وأحاديثه، أن يعدّد وهو يُنهي ولايتَه إنجازاتٍ لم تحصل، سوى إنجاز وحيد وهو الترسيم البحري مع اسرائيل.

في إطلالته الوداعية عبر حديث تلفزيوني لم يجد عون ما يفاخر به خلال ولايةٍ تحوّل فيها لبنان ما يشبه الدولة الفاشلة - الدولة الخردة. جلّ ما قاله كان الهجوم على الجميع الذين حملوه على أكتاف «التفاهمات» إلى القصر وخرجوا منها الواحد تلو الآخر... غَسَلَ يديه من أي مسؤولية عن الخراب وإحتكر مع حزبه وصهره «مكافحة الفساد».

من العبث المقارنة بين عون الداخل إلى قصر بعبدا العام 1988 وبين الخارج منه اليوم رئيساً سابقاً، لم يتسلّم الوشاح الرئاسي عند دخوله ولم يسلّمه إلى خَلَفٍ له كان يَنتظر أن يكون صهرَه النائب جبران باسيل.

تنتهي ولاية عون وسط إنتظاراتِ لبنانيين منقسمين على أنفسهم مرة أخرى، حيال رئيس أَعَدّ خصومه الساعات للإحتفال بإنتهاء عهده، واحتفل مناصروه بعهد إنطبع بشعار «ما خلّونا» الذي خرج من رحم ردود «التيار الوطني الحر» على تظاهرات 17 أكتوبر 2019 التي إستهدفت عون وحزبه في شكل أساسي.

يفاخر العهد بأنه أنجز الإنتخابات النيابية وفق قانون النسبية، علماً ان الإنتخابات حصلت تحت ضغط دولي كثيف من أجل إجرائها، وهي لا يفترض في الأصل أن تكون إنجازاً بل إستحقاق إنتخابي طبيعي. عدا ذلك، لا يمكن تعداد إنجازات عون، الذي جاء تتويجاً لنضال قائدٍ للجيش ورئيسِ حكومةٍ إنتقالية (بين 1988 و 1990) ورئيس أكبر تكتل نيابي مسيحي وأكبر الأحزاب المسيحية، فتحوّل أسير وصوله إلى الرئاسة وكأن كل الوعود التي قدّمها منذ التسعينات تبخرت.

بدأ عون عهده بأوسع تسوية سياسية شملت كتلاً متناقضة، من «القوات اللبنانية» و«حزب الله» والرئيس سعد الحريري، لينتهي بإنفضاضٍ الجميع عنه، ما خلا «حزب الله». وبدأ بتسويةٍ أتت بالحريري رئيساً لحكومة وحدة وطنية، وينتهي بحكومة تصريف أعمال وبرئيس مكلف بالتشكيل هو نجيب ميقاتي، ويضغط «حزب الله» من أجل تأليف حكومة في الساعات الأخيرة من العهد. وليس ذلك سوى نقطة في بحر الإنهيار السياسي، الذي شهده عهد عون منذ ان إنفجرت التظاهرات في وجهه وفي وجه الطبقة السياسية، فتحول القصر الجمهوري سجين الأسلاك الشائكة ورئيسُه أسيرَ الهتافات ضده.

ستة أعوام من عمر الطبقة السياسية، لم يَبْقَ منها حليف لعون سوى «حزب الله» لأسباب إضطرارية، إذ خاصمه الرئيس نبيه بري على مدى ولايته، وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. إختلف مع الكنيسة المارونية (بكركي)، ومع «القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب» و«تيار المردة» والمستقلين وخاض التغييريون الإنتخابات النيابية ضده كما ضد الطبقة السياسية.

بدأ العهد برعايةٍ خليجية وعربية ودولية وإقليمية وينتهي بتخلي الجميع عنه، ما خلا فرنسا، رغم فشل رئيسها ايمانويل ماكرون في كل المبادرات التي تَقَدَّمَ بها من أجل إنقاذ الوضع الداخلي.

في العهد الذي إنتظره «التيار الوطني الحر» منذ المنفى الفرنسي (بين 1991 و2005)، إنفجرت شحنة ضخمة من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت في 4 اغسطس 2020 وإستشهد وجُرح آلاف اللبنانيين، ودُمّر نصف العاصمة، ومع ذلك لم تُعرف الحقيقة وتَعَرْقَلَ عمل التحقيق وكُفَّتْ يد قاضي التحقيق طارق بيطار بسبب التدخلات السياسية. أكبر تفجير عرفه لبنان ومعه العالم، تحول وكأنه شيئاً لم يكن وذهبت أرواح الضحايا سدى في ظل رئيسٍ كان يعلم أن نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ.

في الأعوام الستة انهار الجهازُ الديبلوماسي اللبناني في العالم بعدما كان مفخرة لبنان، وانهارت المؤسسات الرسمية وتعطّلت الإدارة، وأصيبت شبكات الإنترنت والهاتف الخليوي بأضرار فادحة، وتضرّرت الجسور والطرق بسبب فقدان الصيانة، وإنهارت شبكة البنى التحتية.

العهد الذي بدأ بمعركة فجر الجرود ضد الجماعات الإرهابية إنتهى بتحلّل الوضع الأمني وتَوَسُّع عمل شبكات تهريب الكبتاغون والسرقات والخطف والإعتداءت وسط غياب الأجهزة الأمنية بسبب تَعَثُّر دورها وقدرتها على تأمين الأمن بعدما صار راتب العنصر الأمني ثلاثين دولاراً.

بدأ العهد على وقع وعود برخاء إقتصادي وبإنجازات مالية وبهندسات تحت ناظريْه أجراها مصرف لبنان من أجل بضع مصارف إستفادت من هيكليات مالية، وينتهي بأسوأ أزمة إقتصادية لم يشهدها لبنان حتى في عز حربه المدمرة 1975 - 1990.

بدأ العهد والدولار يساوي ألف و500 ليرة وينتهي والدولار بأربعين ألف ليرة. نصف ولاية عون تحوّل فيها اللبنانيون إلى فقراء وإنعدمت سبل الطبقة المتوسطة وسُرقت أموال الشعب من المصارف، وتحوّل أكثر من نصف اللبنانيين إلى متسولي إعانات وإعاشات.

نصف ولاية عون، إنهار فيها قطاع الإستشفاء وتعذّرت طبابة مرضى الأمراض المستعصية والسرطانية، وفُقدت الأدوية وصار اللبنانيون يبحثون عن الدواء في تركيا وإيران وسوريةـ ويفتشون عن حليب أطفالهم خارج لبنان، ويصطفون في طوابير بالمئات على محطات المحروقات بعدما فُقد البنزين.

وفي «البلد النفطي» المفترض صارت الكهرباء مقطوعة 24 ساعة على 24 ساعة، وتحولت فواتير مولدات الأحياء إلى الدولار الأميركي، لمن يتمكن من إيفائها.

في بلد الأناقة إنتشرت محال التجزئة بالعشرات وصار اللبناني يرتدي من البالة (ثياب مستعملة). وفي بلد الصحة والجمال إنتشرت الأمراض وآخرها الكوليرا بسبب إهتراء البنى التحتية وإنقطاع مياه الشفة النظيفة وفقدان الأدوية.

في بلد العلم والثقافة، إنهار القطاع التعليمي، والجامعة اللبنانية، بسبب تلاشي قيمة العملة اللبنانية وعدم قدرة الطلاب على تأمين الأقساط وعدم تمكن الجامعات من تأمين المتطلبات اللازمة لتعليم راق ومتزن.

في السنة الأخيرة من العهد صار اللبناني يقف يشحذ جواز سفره، تذكرة سفره إلى الهروب من بلاد بشّر رئيسُها بذهابها إلى جهنم، وقد يكون ذلك الأمر الوحيد الذي... تَحَقَّق.