اعتقد الغرب أن دعمه العسكري والمالي السخي لأوكرانيا، من شأنه تمكين جيشها من القتال ضد روسيا والانتصار بخسائر قليلة، ما دام قادة كييف على استعداد للتضحية، لاعتقادهم بأن الغرب سيحمي بلادهم ويضعها تحت الأجنحة الغربية (كما يحصل اليوم)، بحيث تنضمّ يوماً إلى دول الاتحاد الأوروبي الـ 27.
وقرر قادة الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية الكبرى، الالتزام بمئة مليار دولار لأوكرانيا منذ بداية الحرب، آخرها 19 مليار يورو من أوروبا، التي تعاني ديوناً كبيرة واضطرابات داخلية، لن يستطيع قادتها الصمود طويلاً في دعم سياسة أميركا الهادفة إلى إخضاع روسيا، وهي السياسة التي تتضارب مع مصالح أوروبا الاقتصادية.
واعتقدت الدول الغربية أن روسيا لن تقطع أو تقلص تصدير النفط والغاز - مصدر الإيرادات والتصدير الروسي يبلغ نحو 500 مليار دولار في السنة - عن القارة العجوز أو تفرض الدفع بالعملة الروسية لحماية اقتصادها من التضخم وانعكاساته على الداخل.
ويدور الصراع الحالي حول ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على هزيمة روسيا حتى يشهد العالم قوتها غير المحدودة ومنع أي تحدٍ مستقبلي لهيمنتها، وبالأخص الصين، إذا ما انهزمت موسكو في الحرب الدائرة.
ومن المتوقع أن تشتد المعركة في الأسابيع المقبلة مع قدوم فصل الشتاء.
وقد تواجه أوروبا زعزعة شديدة للاقتصاد والصناعة بسبب ارتفاع مستويات المعيشة والتضخم المتعاظم، مما يضرب سكان القارة التي تبحث عن مصادر الطاقة بسعر أرخص مما تشتريه اليوم، حتى من حلفائها.
وتصر المفوضية الأوروبية - وإن بلا جدوى - على وضع قواعد لتقاسم الغاز بين الدول الأعضاء وتحديد سقف لأسعار الطاقة.
وقد ضربت روسيا أكثر من 40 في المئة من محطات الطاقة الأوكرانية وأخرجتها من الخدمة، ما منع كييف من إمداد أوروبا بالكهرباء، كما وعد الرئيس فولوديمير زيلينسكي قبل بضعة أشهر.
وتالياً، يبدو أن الانقسام ساد بعد اجتماع رؤساء دول الاتحاد الأوروبي في بروكسيل الأسبوع الماضي، إذ أنهوا اجتماعاتهم التي استمرت يومين وحققوا نتائج قليلة حول تحديد أسعار الطاقة، ولكنهم اتفقوا حول تدريب 15 ألف أوكراني لتستمر الحرب لأطول فترة ممكنة.
وفشلت اجتماعات بروكسيل في إعادة الهدوء إلى السكان والأسواق الأوروبية المضطربة. ويرجع ذلك إلى اختلاف الأولويات بين القادة الأوروبيين وارتفاع أسعار الطاقة - الذي يؤثر بدوره على أسعار الضروريات على الأقل - و انخفاض تدفق الغاز الروسي الرخيص إلى أوروبا بعد العقوبات وتخريب «نورد ستريم» (خط الأنابيب الروسي - الأوروبي)، ما يشكل «فرصة هائلة» للولايات المتحدة لتصبح أكبر مورد للغاز في أوروبا، كما أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال اجتماعه مع وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي.
من جانبها، رفضت ألمانيا والمجر ودول أخرى وضع حد أقصى لسعر الطاقة خوفاً من امتناع موردي الطاقة (النروج وأميركا والجزائر وأذربيجان وروسيا) عن إمداد القارة العجوز بالغاز.
بالفعل اشتكت ألمانيا وفرنسا من «أصدقاء» الاتحاد الأوروبي (الولايات المتحدة والنروج) الذين يبيعون الغاز لأوروبا بسعر مرتفع للغاية.
وتنتقل هذه الأزمة الأوروبية من قمة إلى أخرى، حيث لا يستطيع زعماء دول الاتحاد الـ 27 إيجاد حل للاقتصاد المتدهور. إذ يتزايد الضغط السكاني في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا ودول أخرى، ضد غلاء المعيشة وانخفاض القيمة الشرائية لليورو.
وقدم ممثلو أرباب العمل والشركات الصناعية الأوروبية واقعاً جديداً مؤلماً: هنالك نحو 35 مليون أوروبي قد يفقدون وظائفهم إذا لم يجد القادة حلولاً سريعة، وتالياً فإنه من المحتمل أن تغادر الشركات والمؤسسات الأوروبية وتهاجر إلى الخارج بحثاً عن طاقة رخيصة.
وسيكون لخطوة مماثلة عواقب وخيمة على الصناعة والتجارة الأوروبية وسيؤدي إلى اضطراب شديد في الأمن والاقتصاد والظروف المعيشية.
ومما لا شك فيه أن التضخم قد أصاب الطبقة الوسطى، وليس الفقراء فقط، لأن الأمن الغذائي يهدد السكان في شكل خطير.
ويبدو أن الجميع يكافح من أجل البقاء مع بداية فصل الشتاء.
وأكد المدير التنفيذي لشركة «شل» البريطانية، بن فان بيردن، أن «أوروبا تواجه ترشيداً صناعياً مؤلماً بسبب أزمة الطاقة التي تواجهها والتي تنطوي على مخاطر سياسية. أعتقد أنه سيؤدي إلى الضغط على الاقتصادات الأوروبية وربما أيضاً الكثير من الضغط على النظام السياسي».
لا توجد إجابات وحلول فورية للحرب، إذ اقترضت دول الاتحاد الأوروبي نحو 1.7 تريليون يورو لمواجهة أزمة «كوفيد - 19» في الأعوام الماضية، وها هي تواجه أزمة الحرب، حيث يندفع قادة الدول الأوروبية لاقتراض مئات المليارات من اليورو، لتخدير غضب السكان لفترة قصيرة لأنه من الواضح أن حل مشكلة التضخم المتنامي، ليس في المتناول ولن يكون متاحاً في القريب العاجل.
وقد أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس، أن حكومته ستنفق ما يصل إلى 200 مليار يورو لمساعدة المستهلكين والشركات على التعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة، وتنشيط صندوق الاستقرار الاقتصادي و«ستفعل كل ما في وسعها» لخفض التكاليف.
وقال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، إن باريس ستنفق 100 مليار يورو على مدى ثلاث سنوات لمساعدة الناس على مواجهة ارتفاع التضخم، بينما بلغ الدين الخارجي لإيطاليا 2.47 تريليون يورو، وعليها إعادة تمويل عبء الاقتراض بنحو 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا تستطيع الدول الأوروبية الحفاظ على دعمها للحرب لفترة طويلة، وتالياً فالعملة ستفقد قيمتها الشرائية وسيندفع التضخم إلى مستويات قياسية لتتسبب بكوارث اقتصادية وركود.
ورغم الضرر الاقتصادي للشركاء في أوروبا الغربية، لا يمكن لإدارة الرئيس جو بايدن إيقاف الحرب في ذروتها لأن الخسارة ستكون كارثة.
وإذا انتهت الحرب في أي وقت قريب من دون إضعاف روسيا ستفقد واشنطن السيطرة على أوروبا.
في هذه الحالة، ستعود شكوك أوروبا الغربية في ما يتعلق باستمرارية وجدوى حلف «الناتو». لذلك، من المتوقع أن ترتفع شراسة المعركة - ومعها ارتفاع أسعار السلع - في الأشهر المقبلة لتحطيم روسيا أو إضعافها قبل نهاية ولاية الرئيس الأميركي، إن أمكن.
خلاصة القول، إن هناك سباقاً مع الزمن: هل يكون النصر من نصيب أولئك الذين لديهم الصبر والقدرة على السيطرة على غضب الشارع؟
هل يستطيع الرئيس فلاديمير بوتين الحفاظ على سيطرته على روسيا وتسريع وتيرة الحرب للفوز على حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا؟
هل سينتفض الأوروبيون قريباً ضد قادتهم ويجبرونهم على التوقف عن دعم الحرب؟
هل ستدفع الولايات المتحدة بكل قوتها لاختراق كل جبهات القتال بغض النظر عن الخسائر في صفوف الأوكرانيين لإنهاء المعركة قبل انهيار الحلفاء الغربيين؟
يبدو أن هذا الصراع وصل إلى مرحلة معقدة: إنه في الواقع سباق مع الزمن لجميع المتحاربين والداعمين للحرب الأوكرانية.