رغم الطابع الاقتصادي - المالي للأزمات العاصفة والمتوالية التي تهبّ على لبنان، فإن البلادَ تشهد حِراكاً فكرياً - سياسياً يَجْهَدُ مِن أجل تشخيص «أصل» المأزق الوطني الكبير وتَناسُلِه أزماتٍ بعناوين مختلفة.
«لقاء الهوية والسيادة» واحد من المنتديات التي نشطت منذ العام 2006 لإثراء الحيوية الفكرية - السياسية في البلاد بحثاً عن مخارج من المأزق المتمادي، وهو اللقاء الذي تَمَيَّز بديناميةٍ ساهمت في تطوير مقارباته لمجمل الوضع اللبناني.
وتحت عنوان «رؤية جديدة للبنان الغد»، أطلق «لقاء الهوية والسيادة» من دار نقابة الصحافة في بيروت، وثيقته التي تضمّنت رؤيته لمجموعة من الحلول للانتقال بالدولة اللبنانية المتهالكة وآليات عملها المليئة بالثغر نحو دولة عصرية قادرة على حماية لبنان والمحافظة على كيانه وبناء مُواطَنة حقيقية.
وأدارت الندوة الإعلامية سعاد قاروط العشي وشارك فيها كل من السفير مروان زين والإعلامي كميل منسى والدكتورين محمد شيا وحيان حيدر.
وبحضور رئيس «لقاء الهوية والسيادة» الوزير السابق يوسف سلامة والنائبين نعمة افرام وفريد الخازن ورجال دين ومفكرين وإعلاميين وممثلين للأحزاب اللبنانية، وشخصيات مرموقة كان أبرزها عادل بحصلي تم التعريف بمضمون الرؤية التي تضمّنها كتيب من 16 صفحة والأسباب التي دعت إليها.
في كلمته الافتتاحية طَرَحَ الوزير سلامة الأسباب الموجبة للتفاهم على رؤية جديدة للبنان قائلاً: «عانت دولة لبنان الكبير من أزمة هوية وانتماء عززها شعورٌ مزدوج بالخوف وبعدم المساواة طال شعبنا اللبناني، وفَتَحَ الطريق لتدخل الغرباء في شؤون الوطن.
مع قيام دولة إسرائيل وتوقيع اتفاق الهدنة معها، فشل لبنان في ترسيخ مفهوم السلام الإنساني لضعف في مناعته الذاتية تَسَبَّبَ في التطاول على سيادته وفي حروبٍ انتهت بفرض تسوية في الطائف قامت على ركائز ثلاثة: الاعتراف بنهائية الكيان اللبناني، الإقرار بتعددية المجتمع، انتقال السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً كمؤسسة مستقلة احتراماً لهذه التعددية».
أضاف: «واجهت تسوية الطائف معارضة داخلية، فالتزمت سورية تنفيذها بغطاء دولي وإقليمي واسع، سمح لها بفرض وصاية سياسية وأمنية مباشرة على لبنان أصابت جوهر التسوية وكسرت المعايير الدقيقة لتوازنات السلطة. وبعد خروج الجيش السوري سنة 2005 شهدت الحياة السياسية والدستورية تعطيلاً تمثل بسنواتٍ من الفراغ في رئاسة الجمهورية، وبسلطة إجرائية أدارتها لسنوات حكوماتٌ مستقيلة، وبسلطة تشريعية لم تقم بواجبها كاملاً في مراقبة الحكومات، كما لم تحترم تواريخ بعض الاستحقاقات الانتخابية.
وعكست هذه الظاهرة أزمة في بنية النظام والدولة دفعتْنا في لقاء الهوية والسيادة الذي انطلق سنة 2006 برعاية ومرافقة غبطة البطريرك (مار نصر الله بطرس) صفير، بشخص النائب البطريركي سيادة المطران غي نجيم، إلى أن نعيد قراءة الاتفاق بنسخته الأصلية وبالروحية التي صيغ بها، فاقترحنا سَدّ بعض الثغر فيه، ومعالجة أخرى، علّنا نصل بلبنان إلى شاطئ الأمان».
وتابع: «مع انتفاضة 17 أكتوبر (2019)، أملنا بأن الصحوة الوطنية لابد آتية والفرز المذهبي والطائفي إلى أفول، فأشركنا في مسيرتنا الوطنية قوى من المجتمع المدني على مساحة الوطن والطوائف، قوى مدركة لتركيبة لبنان المجتمعية، وحريصة على حماية التنوع فيه بكل أبعاده، درسنا جميع ملاحظاتها، أخذنا بمعظمها، وبعدما تأكدنا من أنّ مشروعنا يعكس بصدق هواجس اللبنانيين بكل أطيافهم، تفاهمنا على نص الوثيقة النهائية وأصدرناها في كتيب وضعناه في متناول الجميع.
ومع بلوغ الأزمة مشارف الانهيار الكامل، وفي حوار مع أصدقاء حول الصيغة التي تنتشل الوطن من القعر الذي يتهاوى إليه، فوجئنا بالدكتور محمد السماك يعلن تأييده لهذه الوثيقة وتبنيها بالكامل، فاختصر لنا مسار الحوار والنقاش، وقررنا معه إطلاقها من جديد بزخم وطني جامع، وكلنا أمل أن يوفقنا الله في إعادة الحياة إلى لبنان الرسالة، خوفاً من أن تكون هذه التجربة، الفرصة الأخيرة لبقاء هذا اللبنان الذي عرفناه وأحببنا».
ثم قدم الدكتور جبران كرم الأمين العام لـ«لقاء الهوية والسيادة» شرحاً لمضمون الرؤية بعدما بات السعي إلى التغيير واقعاً لا مفر منه في ظل فشل النظام الحالي في بناء المواطنة الحقيقية وفشل الدولة المركزية في تنمية المناطق وفي ظل ابتعاد لبنان عن الحياد الذي هو ركيزة أساسية من ركائز الحفاظ على كيانه.
وفي سياق شرحه، أورد كرم الأسباب المحفّزة لتجديد الصيغة اللبنانية حيث «إن النظام السياسي ما بعد الطائف أخفق في ترسيخ الهوية ووحدة اللبنانيين وبناء المواطنة. لذا كان لابد من البحث عن نظام يساهم في حماية الهويات المجتمعية والسياسية ومعالجة الأزمة الوجودية لمكونات المجتمع اللبناني».
بداية شرح كرم الأسباب الداعية لقيام دولة لا مركزية كما تتبناها الرؤية و«أول هذه الأسباب مظاهر الفيديرالية المقنّعة في الحياة السياسية اللبنانية، تنوُّع المجتمع اللبناني، تعثُّر قيام الدولة وترهل مؤسساتها وغياب التنمية المتوازنة على المديين الجغرافي والإنساني».
ثم ركز على نقطة محورية في الوثيقة وهي حياد لبنان «فالحياد أساس ميثاقي منذ قيام دولة لبنان الكبير في العام 1920 وقد تزامن اهتزاز لبنان في كل مرة مع ابتعاده عن مبدأ الحياد الذي هو مرتكز أساسي لرسالة لبنان التاريخية وضرورة لا غنى عنها بفعل تعدد المرجعيات فيه وموقعه الجيوبوليتيكي الذي يعرّضه لأخطار إستراتيجية دائمة».
بعدها عَرَضَ كرم مجموعة الحلول التي قدمتْها الوثيقة، فَطَرَحَ المواصفات الأولية لدولة مدنية لا مركزية حيادية (دون استخدام مصطلحات الفيديرالية أو الكونفيديرالية التي تثير مخاوف عن الكثيرين) وتقوم على «إصلاح المؤسسات العامة وتحديثها واعتماد لا مركزية موسعة مناطقية متوازنة مع سياسة خارجية مركزية وإستراتيجية دفاعية شاملة وضامنة لحياد الدولة مع تمتين التماسك الوطني وتعزيز الاستقلال عن الخارج».
ولأن أي إصلاح للنظام السياسي لا يقوم دون إصلاح اقتصادي تقترح الوثيقة إعادة تنظيم الاقتصاد وتكوين النسيج الاقتصادي - الاجتماعي مع الحفاظ على نظام لبنان الليبرالي ذي الوجه الإنساني وإبقائه جزءاً من النظام الاقتصادي العالمي الحر، واعتماد سياسة اقتصادية علمية مبنية على ميزات لبنان التفاضلية ومكافحة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة.
وشدد كرم في شرحه على ضرورة إعادة تكوين السلطة القادرة على حماية لبنان والتي تُعتبر من مرتكزات وثيقة «رؤية جديدة للبنان الغد».
فالوثيقة تشير، وفي رؤية جريئة جديدة كلياً، إلى ضرورة إلغاء المذهبية على مستوى الرئاسة وفي كافة إدارات الدولة (مع الحفاظ على طائفية المراكز) وإقامة المؤسسات الدستورية والإدارية المتوازنة على مستوى الدولة المركزية والمناطق اللا مركزية، وإشراك فعال للبنانيين المنتشرين في العالم في الحياة السياسية اللبنانية بدل تذكُّرهم وقت الانتخابات فقط.
ومن مرتكزات إعادة تكوين السلطة القادرة على حماية لبنان إنشاء مجلس شيوخ ينظر في القضايا المصيرية والقوانين التي يقرّها المجلس النيابي والتي يمكن أن تؤثر على ميثاق الحياة المشتركة ووحدة الكيان والحياد والمساواة بين المواطنين، ويكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين ويتألف من ستين عضواً بالاقتراع المباشر من ناخبي الطائفة.
أما بالنسبة إلى البرلمان فتقدم الرؤية طرحاً جديداً يتخطى القانون الانتخابي ويذهب إلى اقتراح مجلس نيابي يتكون من ستين نائباً خارج القيد الطائفي على أن يكون رئيسه سنياً، شيعياً، درزياً أو من الأقليات المسلمة ويُنتخب لمدة أربعة سنوات غير قابلة للتجديد.
وبالنسبة إلى رئيس الجمهورية، طرحٌ بندا جديداً تقدّمه الوثيقة ويقوم على الإبقاء على رئيس مسيحي إنما دون تمييز مذهبي مع إعادة صلاحيات إليه لتصحيح التوازن بين السلطات ويكون انتخابه مباشرة من الشعب، على أن يكون المرشح شيخاً منتخباً في مجلس الشيوخ عن الطائفة المسيحية ترشّحه كتلته التي خاض معها الانتخابات ويجمع توقيع 16 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ.
أما رئاسة الحكومة فيكون رئيسها مسلماً من دون تفريق مذهبي ويُعيّن بعد استشارات مُلْزِمة مع تحديد مهلة للتأليف. وتأخذ الحكومة الثقة من مجلس النواب مع نظام داخلي يضمن المشاركة الفعلية للجميع وفصل النيابة عن الوزارة، على ألّا يحق لأي مذهب أن يحتكر رئاستين ومع الاحتفاظ بمبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين داخل كل وزارة أو إدارة رسمية مركزية.
بعد هذا الشرح المفصل لرؤية «لقاء الهوية والسيادة» حول لبنان الغد، عبّر السفير مروان الزين في كلمته عن كون الدساتير توضع لتأمين الصالح العام ورفاهية المواطن وحفظ الوطن وقد تكون ممتازة في كتابتها، لكن تبقى العبرة في التطبيق وفي اختيار المؤتمَنين على تطبيق النصوص، مركّزاً على كون دستور الطائف لا يخلو من الحسنات لكن المطلوب إصلاح ثغره، «والخلل الأساسي هو في تكليف واختيار أشخاص غير مناسبين لتطبيقه».
ولم يتردد الزين في التنبيه إلى أن الانطلاق من دولة مركزية نحو دولة اتحادية من دون تحضير جيد هو مقدمة لإيجاد مجموعات انفصالية تؤدي إلى تشرذم الوطن وتنهي دور لبنان الرسالة.
من جهته اعتبر الإعلامي كميل منسى أن الوثيقة هي نقطة انطلاق لإعادة بناء الدولة «وعلى الكل المساهمة والسعي لتحسينها». وركز على دور الإعلام في الحضّ على الإصلاح.
أما الدكتور محمد شيا فقال في كلمته «من حسنات الوثيقة أنها قدمت مادة قابلة للنقاش وتصلح كأساس في إصلاح النظام السياسي في ظل انهيار تدريجي لفكرة الوطن والهوية»، لكنه عبّر عن خوفه من أن يُبنى التكوين المستقبلي للسلطة على واقع حالي غير ثابت وهو نتاج حروب وانقسامات.
كما أعرب عن خشيته من أن يكون التحول إلى اللا مركزية خطوة نحو المجهول «لذا فالتروي في هذا الطرح أمر ضروري». لكنه أثنى على الطرح الجديد الجريء في إخراج الرئاسات الثلاث من المذهبية «وبذلك اختراق الجدار الذي لم يتمكن أحد من اختراقه».
وأورد شيا سلسلة من الملاحظات حول انتقاص صلاحيات رئيس الجمهورية التي أدت إلى مشكلات عدة في النظام اللبناني وبوجوب أن يكون لدى الجميع قناعة بأنه لبنان بلد نهائي للجميع وكل المشاريع الكبرى يجب أن تبقى على أبوابه. وركّز في شكل كبير على دور التربية في تكوين هويةٍ ونظرة واحدة للبنان.
أما الدكتور حيان حيدر فكانت له قراءة نقدية حادة للوثيقة وملاحظات سلبية كثيرة انطلاقاً من قناعات مختلفة.
ختاماً كانت للمشاركين مداخلات تمحورت حول كون الوقت قد حان للبحث في قراءة جديدة للنظام اللبناني.
فهل تكون قراءة مشتركة تؤسس لدولة عصرية تحفظ كل مواطنيها أم تبقى مكونات لبنان شعوباً متناقضة كلٌّ يقرأ في كتابه؟