لم تكد تمر الذكرى الثالثة لثورة 17 أكتوبر حتى أعلن النائب ميشال دويهي انفصاله عن كتلة النواب التغييريين الـ 13.

هناك حالة تغييرية نجمتْ عن ثورة 17 اكتوبر 2019 عبّرت عن نفسها في خوض الانتخابات النيابية في مايو 2022 لكن في لوائح مختلفة ومتناقضة.

فمنذ 17 أكتوبر، بدأت بعض الشخصيات تفرض نفسها كمتحدّثة باسم الثورة أو ناشطة أو مستقلّة أو داعمة، وبينها مَن هو أستاذ جامعي، أو إعلامي أو نقابي أو طبيب أو رجلُ أعمالٍ طامحٍ لدخول العمل السياسي. وفي الاستحقاق النيابي كثُر مرشحو «المجتمع المدني»، الذي بات الاسم الحَركي لانتفاضةٍ خمدت على الأرض وبقي وهجُها حاضراً في المشهد السياسي الذي تَهَيَّب أركانُه أن يقتحم نادي الأحزاب التقليدية او «العتيقة» وافدون جدداً من خارج الاصطفافات والتقابُلات التي طبعت الواقع اللبناني وخصوصاً منذ 2005، وبخطاب وأداء «عقابي» وزاجر لـ «المنظومة» يشكل صدى لهدير مئات الآلاف الذين ملأوا الساحات قبل أن تستريح قبضة الثورة.

لم تكن تَجْمع النواب الـ 13 الذين فازوا في الانتخابات معرفة عميقة، وكانوا موزَّعين بين دوائر انتخابية وآتين من مشارب مختلفة، وهم إبراهيم منيمنة، بولا ياغوبيان، سينثيا زرازير، ملحم خلف، وضاح الصادق، رامي فنج، ميشال الدويهي، حليمة قعقور، مارك ضو، نجاة عون، الياس جراده، ياسين ياسين وفراس حمدان.

فوز تغيريين ومستقلّين في الانتخابات محقّقين رقماً مهماً في وصول «كتلة الـ 13» الى البرلمان لأول مرة خارج الأطر الحزبية والمحادل الطائفية والسياسية، تحوّل حَدَثاً في ذاته لأنه كَسَرَ حلقة الأحزاب التي حاولت السيطرة على مجلس النواب ومنْع وصول مَن يعبّر عن توجهاتٍ مستقلّة اليه.

احتفى الناشطون بكتلةٍ نيابية تُعدّ وازنةً ولها ثقلُها في الموازييك المجلسي وقادرة على أن تؤثّر في قراره، واستهدُفت الكتلة في المقابل من جانب أحزاب وقوى السلطة، حتى لجهة عدم الاعتراف بأن نوابها تغيرييون. وبدت لافتة حين استقبل رئيس الجمهورية ميشال عون الوفد النيابي لتسمية رئيس الحكومة عبارةٌ وردت في النص الرسمي ان "استقبل الرئيس عون عدداً من النواب دخلوا الى اللقاء معاً«، في حين أن رئيس»التيار الوطني الحر" جبران باسيل يتهكّم في خطبه على تسميتهم التغييريين.

ما هي إلا خمسة أشهر على عمر الانتخابات، حتى بدأت الخلافاتُ تدبّ في أعضاء الكتلة، وانسحاب الدويهي منها ليس سوى رأس الخيط وتعبير ساطع عن الاتجاهات المختلفة داخلها. مع العلم أن من الطبيعي أن تكون الأضواء كلها مصلتة على الكتلة وخصوصاً من الأحزاب لرصْد أي خطأ ولو صغير منها. لكن أعضاء الكتلة قدّموا لخصومهم الأخطاء على طَبَق من فضة، وفي فترة قياسية.

منذ أول جلسة لانتخاب رئيس برلمان 2022 ونائبه بدا صوت التغييريين متعثراً في إيجاد سيناريو لخوض المعركة إلى جانب كل قوى المعارَضة. وعصفتْ الخلافاتُ بين النواب بسبب رفْضِ عدد منهم التعامل مع أحزاب مُعارِضة كونها شريكة في السلطة، وتأييد آخَرين استراتيجية توصل نائب رئيس للمجلس من الطرف المُعارِض أياً كانت التحالفات.

ومن بين النواب الـ 13 نائبة واحد سابقة هي بولا يعقوبيان، وهي إعلامية محنّكة، في حين أن الآتين من خارج الندوة غير خبيرين تماماً بدهاليز وألاعيب أسياد البرلمان ورموزه المعتّقين، من الرئيس نبيه بري إلى أحزاب متجذّرة في الإمساك بمفاصل السلطة.

في المحصلة تأخّر التغييريون في التقاط الفرصة وانتُخب النائب في تكتل «لبنان القوي» الياس بو صعب نائباً لرئيس البرلمان وخسرت المعارضة فرصةً ايصال النائب غسان سكاف. وانسحب ذلك على انتخابات اللجان فاتُّهمت الأحزاب بأنها تتّكل لحماية بعضها البعض.

حاول التغييريون تصحيح أوضاعهم الداخلية في اتخاذ الخطوة التالية المتمثلة بتسمية رئيس للحكومة. وجرت محاولات عدة لتوحيد الصف. وحتى في تأليف الوفد، كان 3 نواب يصرون على زيارة بعبدا منفردين، لكن المحاولات نجحت في لم الشمل وزار الوفد النيابي بعبدا كتلة واحدة. ومجدداً ظهر الخلاف واضحاً في إعلانهم رسمياً أن «عشرة أعضاء من التكتل سموا القاضي نواف سلام لتشكيل الحكومة، وقد امتنع ثلاثة أعضاء عن التسمية وهم زرازير وقعقور وجرادة».

جاءت انتخابات رئاسة الجمهورية لتكرر السيناريو ذاته، إذ سادت خلافات حول الأسماء المفترض خوض هذا الاستحقاق بها. ومرة أخرى وَقَعَ النواب التغييريون في الفخ حين أعلنوا ترشيح رجل الأعمال سليم ميشال اده الذي أصدر بياناً رفض فيه تسميته، وسط معلومات تحدثت عن إبلاغه مسبقاً النواب التغييريين رفضه ذكر اسمه كمرشح لأنه يرفض الدخول في الشأن السياسي العام.

بات التغييريون أمام معادلة جديدة في تسمية أسماء - وسط الاتجاه لفراغٍ رئاسي - يُخشى أن تكون للحرق بينها الوزير السابق زياد بارود أو النائب السابق صلاح حنين أو ناصيف حتي، بعد رفضهم قطعاً أي مرشح للأحزاب ولا سيما النائب ميشال معوض الذي يؤيّده الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية والكتائب وكتلة تجدد وآخرون. وهم اختاروا في جلسة الانتخاب الرئاسية اليوم (الخميس) التصويت بورقة «لبنان الجديد» مع بعض النواب من «قدامى المستقبل» إضافة الى النائبين أسامة سعد وعبد الرحمن البزري وذلك في ما بدا إما تفادياً لحرق مرشّح آخر وإما لإخفاء عدم التوافق بينهم على اسم واحد، رغم ما اعتُبر تقدُّماً في سلوكهم التكتيكي بالتلاقي مع آخرين تحت «يافطة واحدة».

من هنا جاء انسحابُ الدويهي، غداة جلسةٍ نيابية (انتخاب هيئة مكتب المجلس واللجان) حفلت بتسويات على الطريقة اللبنانية وبتظهيرٍ نافر لـ «الصَدَع» بين التغييريين وعشية جلسة الانتخاب الثالثة، ليثير تساؤلات حول ما يريده التغييريون فعلاً في ممارسة العمل السياسي وخوض الانتخابات. ففي ظل عدم وجود قيادة واحد للتغييريين بصفتهم ليسوا حزباً، فإن لكل منهم أجندة مختلفة.

وقد اتُّهم النائب ملحم خلف، النقابيّ الذي احتفلت الثورة به يوم انتُخب نقيباُ للمحامين، بأنه قريب من الرئيس نبيه بري وأنه ينسق معه في خطوات منذ أن أطلق مبادرة بعنوان «معا نسترد الدولة». واتُّهمت النائبة حليمة قعقور بأنها أقرب إلى أفكار «حزب الله» وأنها تعادي «القوات اللبنانية» وترفض أي تنسيق معهم ولو تحت سقف المعارضة. واتُّهم النائب ابراهيم منيمنة أخيراً بأنه حين قَبِل الدعوة الى عشاء حوارٍ في السفارة السويسرية كان يتصرّف من وحي معارضته لاتفاق الطائف ورغبة في تعديله، وكان زميله النائب وضاح الصادق لاذعاً في دفاعه عن الطائف كمرجعيته في وجه زملاء يريدون تعديله.

بدورها تحولت زرازيز الى مشروعِ استهدافٍ متكرر نتيجة ممارساتٍ يرفضها نواب داخل تكتل التغيير. واتُّهم النائب مارك ضو بأنه يساير أحزاب السلطة، وتعرضت النائبة نجاة صليبا لحملة ضد عبارة استخدمتْها حول بري و«خبرته»، في حين أن دويهي كان مشروعَ مرشح لرئاسة الجمهورية كونه ماروني وكان هناك من التغييريين مَن يصر على تسمية مرشحين من داخل التكتل لخوض المعركة به. أما يعقوبيان فتتميّز عن البقية بحريةِ حركةٍ واتصالات سياسية بعيدة عن التكتل في حين أن زملاء لها يتهمونها بأنها تحاول تَزَعُّم المعارضة بفرض أجندة معينة.

انسحاب الدويهي أثار لغطاً، وسيكون النواب التغييريون أمام استحقاقات جديدة، في معاودة توحيد صفوفهم على الأقل أمام ناخبيهم الذين كانوا يعترضون على أداء ممثلي الأحزاب فأصبحوا أمام نموذجٍ من الخطورةِ بمكان أن يكرر تجربة الأحزاب التي ثار عليها اللبنانيون.