كضربة سيفٍ في الماء، مرّتْ الـ «لا جلسة انتخاب» الرئاسية الثانية التي فشل فيها البرلمان اللبناني، أمس، في اختيار خَلَف للرئيس ميشال عون الذي لم يبْقَ من ولايته إلّا 17 يوماً، إما تسبق انتهاءها معجزةٌ غير متوقَّعة تسمح بحصول تسليم وتسلُّم في 31 أكتوبر - 1 نوفمبر، وإما تُفتح البلاد على مرحلةٍ من الفوضى وسط «شحذ سكاكين» سياسية - دستورية يُخشى أن تشتدّ بحال لم تنجح اتصالات ربع الساعة الأخير في استيلاد حكومة انتقالية كاملة المواصفات مهمتها إدارة الشغور في الكرسي الأول وامتصاص الصدمات المالية - المعيشية التي سيُحْدثها اصطدام الاستحقاق الرئاسي بحائط مسدود.
وفيما كانت «أسارير» بيروت تنفرج على وقع مضيّ اتفاق الترسيم البحري مع اسرائيل في طريقه «المرسوم» نحو الإبرام النهائي،
بـ «صندوقة أسراره» الكامنة بين نقاط المسودّة التي تنتظر اكتمالَ دورة الموافقات الرسمية في بيروت وتل أبيب قبل مَراسم التوقيع في الناقورة ثم الإيداع في الأمم المتحدة، بقيتْ الانتخاباتُ الرئاسيةُ على سكة فراغٍ يبدو أن ما كُتب قد كُتب فيه، وذلك بمعزل عن الوهج الإيجابي لإرساء «الحل الدائم والعادل للنزاع البحري» بين بيروت وتل أبيب، وهو الملف الذي وإن كانت تأثيراته وتداعياته وُضعت على «مقياس» التكامل الإقليمي، إلا أن من الصعب تبيان الخيط الاستراتيجي لأبعاده وخلفيات التراجعات المتبادَلة لطرفيْ الصراع، ومن خلفهما «حزب الله»، من الخيط الواقعي الذي أمْلى ولادةً مستعجلة فَرَضها:
• توقيتٌ حُكْمي هو استحقاقُ أوانِ الاستخراج من حقل كاريش الذي كان تحوّل محط نزاع بـ «رميةِ» خط التفاوض 29 الذي وسّع معه لبنان رقعة منطقة الصراع البحري لضمان حصوله على الخط 23، قبل أن يستخدم كاريش ورقة مقايضةٍ مع كامل حقل قانا (وامتداده جنوب الخط 23)، وصولاً للجوء «حزب الله» إلى ديبلوماسية المسيَّرات فوق منصة إنرجين للضغط في هذا الاتجاه.
وفي التوقيت الاسرائيلي أيضاً عامل الانتخابات التشريعية في 1 نوفمبر والخشية من وصول بنيامين نتنياهو وتالياً الإطاحة بالاتفاق برمّته وعودة شبح حربٍ لا تريدها تل أبيب وشكّل هاجس وقوعها «جندياً مجهولاً» في الدفع نحو التسليم بقسم كبير من شروط لبنان.
• توقيت دولي شكلته حرب أوكرانيا والحاجة إلى ربْط سريع لغاز كاريش بالقارة المتعطّشة لـ «أوكسيجين غاز» في الشتاء الصعب.
• توقيت أميركي جعل واشنطن ترمي بثقلها في مفاوضات الترسيم لانتزاع إنجاز ديبلوماسي قابل للاستثمار في الانتخابات النصفية في نوفمبر، راعى المصالح الأمنية لاسرائيل بالكامل، وحفظ «وَرَقياً» الحقوق الاقتصادية للبنان وأفرج عن استثمار موارده الكامنة، ويشكّل «نافذةً» لتشارُكية بين تل أبيب وبيروت «تحت البحار»، سيصعب حجْب معانيها السياسية والديبلوماسية رغم الكلام عن أن الاتفاق، الذي سهّل بلوغَه «حزب الله»، لا ينطوي على أي «تطبيع مع العدو».
• توقيت لبناني، انطلق من الاختناق المالي «المميت» وحاجة «حزب الله» إلى تخفيف الضغط عن الساحة التي يُمْسِك بمفاصلها وإلى تنويع مخارج الطوارئ (من الأزمة) المحصورة حتى الساعة بصندوق النقد والدول المانحة، وفي الوقت نفسه عدم رغبته في الحرب مع اسرائيل، الأمر الذي حتّم ترْك المفاوضات تأخذ مجراها وصولاً إلى الإبرام، رغم ما ينطوي عليه الاتفاق من نقاطٍ اعتُبرت بمثابة «الخاصرة الرخوة» وأبرزها:
1- تكريس بقعة النزاع عند خط الطفافات الاسرائيلي بمثابة منطقة أمنية لتل أبيب لم تنجح بيروت في جعْلها حتى منطقة خالية أو عازلة أو في عهدة الأمم المتحدة (بانتظار حصول الترسيم البري).
2- جعل واشنطن بمثابة المرجعية في تفسير أي التباسات في الاتفاق أو حل الخلافات في مرحلة التنفيذ الأمر الذي اعتُبر بمثابة «وصاية» أميركية على الملف النفطي، وهو ما تم ربْطه في أحد جوانبه بفقدان الاتفاق صفة المعاهدة الدولية، بمفاعيلها القانونية و«التحكيمية» بسبب رفْض لبنان أي اعتراف بإسرائيل.
3- الغموض حيال مسائل عدة بينها إمكان جعْل تل أبيب حصول الاتفاق المالي المنفصل مع «توتال» لتعويضها مالياً ومن أرباح الشركة الفرنسية حقوقها في الجزء من حقل قانا الواقع جنوب الخط 23، لعرقلة انطلاق أعمال التنقيب وفق اتفاق «توتال» مع الجانب اللبناني.
ولم يكن عابراً، أمس، أن حتى جلسة الانتخابات الرئاسية، التي توافر نصاب انعقادها في مقر البرلمان ولكن ليس في القاعة العامة فرُفعت دون أن تُفتتح ورُحلت إلى الخميس المقبل، طغى عليها ملف الترسيم وسط مطالبة العديد من النواب وأبرزهم كتلة التغييريين الرئيس نبيه بري بعرض اتفاق الترسيم على مجلس النواب لإقراره بوصفه معاهدة وكون المفاوضات التي أجراها الرئيس عون مسندةً إلى أحكام المادة 52 من الدستور والتي تنصّ على أن رئيس الجمهورية يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء، وبأن المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة وتلك التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، لا يملك حق إبرامها إلا بعد موافقة البرلمان.
وفيما طلب بري من الأمانة العامة للبرلمان «إبلاغ نسخة من ترسيم الحدود البحرية الجنوبية اللبنانية لكل من السادة النواب للاطلاع بعد إقراره في مجلس الوزراء»، فإن هذا الأمر ترك التباساتٍ حول إذا كان ملف الترسيم سيدخل زواريب المزايدات اللبنانية وتالياً يصبح في دائرة «الخطر» المرتبط بمهل زمنية داخلياً وإسرائيلياً، وسط مناخات سادت بأن إحالة الاتفاق على مجلس النواب ليكون له دورٌ تقريري في الموافقة ترتبط بمروره في مجلس الوزراء، وإذ لم يحصل ذلك فإن النسَخ للنواب ستكون من باب «أخْذ العلم» وليس أكثر.
وعلى وقع كلام مصادر عن أن لبنان يتعاطى مع الاتفاق على أنه «تقني وعسكري» وتالياً لا حاجة لإخضاعه لموجبات وآليات إمرار المعاهدات، وهو ما عبّرت عنه طبيعة الوفد (العسكري - التقني) الذي أوكلت إليه بيروت المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل (منذ أكتوبر 2020)، نُقل عن أوساط رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أنه «سيطلع الوزراء على نص اتفاق ترسيم الحدود دون اتخاذ أي قرار في شأنه لأن إقراره يعني اتفاقاً بين لبنان والعدو الذي لا نعترف به كدولة وهذا الأمر ليس وارداً باعتبار أن أي إقرار للاتفاق في مجلس الوزراء يعني التطبيع مع العدو».
في هذا الوقت كان الرئيس عون أجرى اتصالين هاتفيين بكل من برّي وميقاتي وبحث معهما في ملف ترسيم الحدود في ضوء الصيغة النهائية التي أرسلها الوسيط آموس هوكشتاين إلى المسؤولين اللبنانيين قبل أيام.
«حزب الله» يدير خلاف بري - التيار الحر بـ «مداراة»
وكانت جلسة الانتخاب الرئاسية انطبعتْ في الشكل بمشاركة كتلتي «حزب الله» وبري «بالتكافل والتضامن» في تطيير نصابها، مراعاةً لتكتل رئيس الجمهورية (كتلة لبنان القوي) الذي أعلن مقاطعة الجلسة بعدما اعتبر إصرار رئيس البرلمان على عقدها في ذكرى 13 أكتوبر 1990 (الإطاحة بعون من قصر بعبدا بعملية عسكرية شارك فيها الجيش السوري وطيرانه الحربي) بمثابة استفزاز «وعدم مراعاة» معاني هذه المحطة.
وبدا أن «حزب الله» أمسك بالعصا من الوسط في مقاربته الموقف من الجلسة التي غاب عنها حليفه المسيحي الأبرز، فاختار في إطار مداراته أن لا يوضع في موقع المفاضلة بين «التيار الوطني الحر» وبين شريكه في الثنائية الشيعية (بري) الذي يشكّل عنوان الدور الشيعي في النظام السياسي اللبناني، فاجتذب بري إلى المشاركة في الإطاحة بالجلسة وتالياً توجيه رسالة بأن تحديد موعد 13 أكتوبر لم ينطوٍ على أي سوء نية، وهو ما تجلى في بقاء 4 من كتلة الحزب و5 من كتلة رئيس المجلس في القاعة بعدما قُرع الجرس ودخل بري ليبقى 71 نائباً في مقاعدهم (النصاب هو 86 من 128 يتألف منهم البرلمان)، والآخَرون توزعوا في قاعات جانبية.
وحجب تطيير النصاب الإرباكات التي ما زالت تسود فريقيْ المعارضة لائتلاف «حزب الله» والتيار الحر، كما الموالاة، في ضوء عدم توافق الأولى على المرشح ميشال معوض الذي يحوز غالبية أصواتها المشتتة (نحو 40 من 67) وسط عدم نضوج ظروف الانتقال إلى «الخطة ب» التي لا يمكن التفكير فيها قبل دخول مرحلة الشغور بمقتضياتها المختلفة.
أما الموالاة فلا تملك بدورها القدرة على التوفيق بين مكوناتها ولا سيما رئيس التيار الحر جبران باسيل وزعيم «المردة» سليمان فرنجية وكلاهما مرشحان طبيعيان، وهي تنتظر، ولا سيما «حزب الله»، تَبَدُّل معطيات، وربما يفرضها «جمر» الفراغ و«إنهاك» اللاعبين الأساسيين، للدفع نحو تسوية على قاعدة رئيس ليس معنا ولكن ليس ضدنا، تجسيداً لـ «المرونة» التي طبعت إدارته ملف الترسيم وصوناً لمفاعيله من أي عصْف فوضوي.
وزيرة خارجية فرنسا في بيروت
وعلى وقع هذه التطورات، تُجري وزيرة الخارجية الخارجية الفرنسية كاترين كولونا اليوم محادثات رسمية في بيروت.
ووفق بيان للسفارة الفرنسية، ستجري الوزيرة محادثات مع رئيس الجمهورية كما ستلتقي ميقاتي وبري، وستؤكد في ما خص الاستحقاق الرئاسي «تمسّك فرنسا بحسن سير العمل في المؤسسات اللبنانية».
وستشدّد كولونا من جهة أخرى على «أن من المُلحّ بالنسبة إلى لبنان أن يتمّ تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات كي يخرج من الأزمة الشديدة الخطورة التي يواجهها منذ أشهر عدة ويقوم بالإصلاحات الاقتصادية والمالية التي ينصّ عليها الاتفاق الموقّع في أبريل مع صندوق النقد الدولي، وهي إصلاحات ضرورية جداً في السياق الذي تشهده البلاد والذي يثير الكثير من القلق».
وستشكّل الزيارة أيضاً، وفق البيان، «مناسبة للترحيب بالاتفاق التاريخي حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي تمّ التوصّل إليه هذا الأسبوع، والذي سعت فرنسا من أجله مع شركائها الدوليين، وفق بيان السفارة».