يعطي تدمير جسر يربط الأراضي الروسيّة بشبه جزيرة القرم فكرة عن الصعوبات التي تواجه فلاديمير بوتين والحرب التي شنها على أوكرانيا. أكثر من ذلك، يعطي تدمير الجسر، ذي الأهمية الإستراتيجية الكبيرة بالنسبة إلى الجيش الروسي، فكرة أخرى عن الجانب الأهمّ في الحرب.

يتمثّل هذا الجانب في تصميم أوروبا والولايات المتحدة على إلحاق هزيمة بروسيا وجعلها تتراجع عن احتلال أوكرانيا وفرض إرادتها عليها.

يشير كلام مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخائيل بودولياك إلى مدى التصميم الأميركي والأوروبي على معاقبة بوتين.

نشر بودولياك صورة للجسر المحترق والمدمّر عبر «تويتر»، قائلاً إنّه «يجب تدمير كلّ ما هو غير شرعي، وإعادة كلّ ما هو مسروق إلى أوكرانيا، واسترجاع كلّ ما احتُل»، مضيفاً أن «هذه هي البداية».

الأكيد أن مستشار الرئاسة الأوكرانيّة ما كان ليخرج بمثل هذه التغريدة لولا شعور بثقة في الدعم الغربي من جهة والضعف الواضح للجيش الروسي من جهة أخرى. لا يريد العسكري الروسي القتال في أوكرانيا.

ليس ما يدعوه إلى ذلك، خصوصا أنّ هذا الجيش لا يمتلك القدرة سوى على قتل مدنيين عزل، كما يحدث في سورية...

يتبيّن كلّما مرّ يوم ضعف الجيش الروسي وعجزه عن خوض حروب والفارق الشاسع بين مستوى الأسلحة الروسيّة والأسلحة الغربيّة، خصوصاً الأميركيّة.

كذلك، يتبيّن أن بوتين، الذي جاء تفجير الجسر الذي يربط البرّ الروسي بشبه جزيرة القرم في يوم عيد ميلاده السبعين، لا يعرف العالم.

هناك جوانب في شخصيته تشبه ما كان في شخصيّة صدّام حسين الذي اجتاح الكويت صيف العام 1990 بعدما تحكّم به جهله بالتوازنات الإقليميّة والدوليّة.

لم يفهم ما قالته له السفيرة الأميركيّة ابريل غلاسبي عن أن الولايات المتحدة لن تتدخل عندما يتعلّق الأمر بخلاف كويتي - عراقي في شأن حقل نفطي.

ظنّ أن ذلك بمثابة ضوء أخضر لاجتياح الكويت.

لم يفهم أيضاً أن العالم تغيّر وأن الاتحاد السوفياتي لم يعد قوّة عظمى في اللحظة التي سقط فيها جدار برلين في نوفمبر من العام 1989.

اتكل على توازن دولي لم يعد موجوداً.

ما لم يفهمه على وجه التحديد أنّ عوامل عدّة سمحت للجيش العراقي بتحقيق شبه انتصار على إيران، وهو شبه انتصار لا يمكن استثماره بالذهاب إلى الكويت والدخول في مساومة مع أميركا من موقع قوّة.

يدفع بوتين بدوره ثمن عدم معرفته بالعالم. خاض مغامرته الأوكرانيّة من دون إدراك لأهمّية هذا البلد بالنسبة إلى أوروبا وأنّ سقوطه يعني سقوط أوروبا كلّها. لم يدرك أن مثل هذا السقوط ليس مسموحاً به، لا أميركياً ولا أوروبياً.

كلّ ما في الأمر أنّ الرئيس الروسي، الذي يجهل حقيقة الوضع في داخل الجيش الروسي، يجهل أيضاً ما مسموح به وما هو محظور على دولة مثل الاتحاد الروسي. مسموح لروسيا ممارسة القمع في جورجيا وقبل ذلك شنّ حرب على الشيشان. مسموح لها باستعادة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا من منطلق أن شبه الجزيرة هذه كانت روسيّة في الماضي.

مسموح لها التدخّل في سورية وقتل آلاف السوريين وتدمير مستشفيات ومدارس إرضاء لـ«الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران التي لديها مصلحة في المحافظة على النظام الأقلّوي في هذا البلد.

بالنسبة إلى بوتين، اختلط المحظور عليه بالمسموح به.

لم يعرف أنّ تهديد العالم بسلاح النفط والغاز خطيئة لا يمكن لأوروبا أن تغفرها له.

لا يصلح سلاح الغاز لابتزاز أوروبا، مثلما لا يصلح السلاح النووي لممارسة مثل هذا الابتزاز.

بكلام أوضح، ليس مقبولا في القرن الواحد والعشرين احتلال دولة لأراضي دولة أخرى ثم دعوتها هذه الدولة إلى التفاوض... أي إلى الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع.

انتهى الاتحاد السوفياتي إلى غير رجعة.

توقعت المؤرخة الفرنسية هيلين كارير دونكوس منذ أواخر سبعينات القرن الماضي انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابها المشهور الذي عنوانه «الإمبراطوريّة المتشظّية».

صدر الكتاب في العام 1978. استندت في توقعاتها إلى أن الاتحاد السوفياتي كان يضمّ جمهوريات إسلاميّة يرفض مواطنوها الأيديولوجية التي تفرضها موسكو. ظهر مع الوقت أن توقعات المؤرخة الفرنسية، وهي من أصول جورجية، لم تكن في محلها كليا. بدأ انهيار الاتحاد السوفياتي بخروج بلدان البلطيق منه (أستونيا وليتوانيا وليتونيا) منه.

لكنّ المفارقة، في ضوء الحرب الأوكرانيّة، أنّ جمهوريات في آسيا، كانت في الماضي جمهوريات سوفياتيّة، بدأت تظهر عداء لموسكو وترفض أي هيمنة روسية عليها، حتّى لو كانت هذه الهيمنة من بعيد.

لم يقع بوتين في فخّ نصبه له الغرب، مثلما لم يقع صدّام حسين في فخّ نصبته له أميركا، كما يدّعي كثيرون. ما هي المهمّة الأولى لأيّ رئيس في أي دولة؟ الوظيفة الأولى تفادي الوقوع في الأفخاخ.

من دعا بشّار الأسد، على سبيل المثال وليس الحصر، إلى تغطية جريمة تفجير موكب رفيق الحريري في بيروت، وهي جريمة معروف من نفّذها، بما أدّى إلى خروجه من لبنان وحلول الاحتلال الإيراني مكان الاحتلال السوري؟

تتجاوز المسألة مسألة تدمير جسر روسي يربط بشبه جزيرة القرم، جسر تفاخر بوتين بافتتاحه شخصيّاً في العام 2018 بعد أربع سنوات من احتلال الجيش الروسي لشبه الجزيرة وسيطرته على موانئها.

المسألة كيف يمكن لحاكم يمتلك حدّاً أدنى من المنطق والواقعيّة خوض حرب في القارة العجوز متّكلاً على الروح الوطنيّة الروسيّة... في حين الاقتصاد الروسي، على الرغم من كلّ ما تمتلك روسيا من ثروات، دون حجم الاقتصاد الإيطالي؟ كيف يمكن لحاكم اتخاذ قرار باجتياح بلد آخر من دون معرفته حقيقة قدرات جيشه وإمكاناته ومدى تخلّف السلاح الذي يمتلكه هذا الجيش.

خلاصة الأمر أنّ بوتين وقع في فخ نصبه لنفسه لا أكثر. فخ نصبه بوتين لبوتين.