بخلاف المعهود في عالم الأعمال، تتكرّر ظاهرةُ إقفال المصارف في لبنان كنوعٍ من الاضراب الاحتجاجي الموجَّه ضد السلطات التي تعجز واقعياً عن نشْر وحدات حمايةٍ أمنية لشبكةٍ تضم 46 مصرفاً يتبع لها 853 فرعاً ومنتشرة في كل المدن والبلدات الكبرى، بينما تتنصّل السلطات عيْنها من موجباتِ دورها المركزي في معالجة المخاوف الحقيقية لأكثر من مليون مودع مقيم وغير مقيم، أفراداً ومؤسسات وشركات، لا يزال بحوزتهم مدخرات «دفترية» تناهز 98 مليار دولار.

وعشية ختام العام الثالث لاندلاع «ثورة»17 اكتوبر«، والمتزامنة مصادفةً مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون نهاية الشهر الحالي، تشكّل ظاهرة قفْل المصارف أمام الزبائن وقصْر التعامل مع غالبيتهم الساحقة عبر»الصرافات الآلية" وهو ما بدأت جولته الثانية يوم الجمعة بعد تكرار عمليات الاقتحام للعديد من فروعها من مودعين غاضبين، عنواناً صارخاً للدرْك الذي بلغتْه البلاد، بفعل الموجات المتلاحقة للتدهور النقدي والمالي، وما تولّده من تداعيات كارثية على المستوييْن الاجتماعي والمعيشي بعدما تسلّم لبنان ريادة مستوى الفقر في المنطقة الى جانب الصومال واليمن وسورية وسواها من البلدان التي تعاني صراعات مريرة وتبديداً منهجياً للمقدرات الاقتصادية ولمجمل مكوّنات الناتج الوطني.

وبات مملاً بالفعل معاودة توصيف الموصوف في البلد المنكوب. فالثابت في الوقائع حقيقة وجود فجوة مالية تقدّرها الحكومة بما لا يقل عن 75 مليار دولار. والواضح في الخلفية التراكُمُ المسبق للدين العام الى حدود 105 مليارات دولار، تَكَفَّلَ الانهيارُ المستمرّ بتذويب 95 في المئة من نحو ثلثيه المحرَّر بالليرة، لتنحدر المبالغ المتوجبة تلقائياً من نحو 61 مليار دولار إلى أقل من 2.5 مليار دولار، وفق سعر الصرف الرائج قريباً من 40 ألف ليرة لكل دولار. فيما يبلغ اجمالي الديون المحرَّرة أساساً بالعملات الأجنبية نحو 39 مليار دولار، كاجمالي أصول وفوائد مستحقة.

ويُظْهِر التحليل الفوري لهذه الأرقام، أن الدولة تتصدّر قائمة الرابحين رقمياً من الأزمات العاتية التي تضرب البلاد بلا رحمة ومن دون فواصل استراحة حتى. فأرقام الدين العام «الرسمية» تقلّصت، ومن دون جهد يُذكر، من نحو101 مليار دولار غير شاملة لمستحقات فعلية تزيد عن 5 مليارات دولار، إلى أقلّ من 43 مليار دولار، بينها نحو 37 ملياراً من سندات الدين الدولية (يوروبوندز) خاضعة لقرار الحكومة السابقة في ربيع 2020 بتعليق دفْع كامل مستحقاتها، ريثما يجري التفاوض «المعلّق» مع الدائنين الموزَّعين بين البنك المركزي والمصارف والمستثمرين الأفراد محلياً، وبحصةٍ أكبر لصالح شركات وصناديق استثمار دولية.

والمثير في المقاربة الحكومية التي وردت في المسودة الثالثة لخطة التعافي التي أحيلت على البرلمان، التشخيص برمي غالبية أرقام الفجوة، والتي حددتها بداية بنحو 72 مليار دولار لترتفع لاحقاً الى 75 ملياراً، في عهدة مصرف لبنان. ثم التبيان بأنها نتجت عن ثلاث صدمات تشمل، إعادة ھیكلة الدیون، وانخفاض سعر الصرف، الزيادة في القروض المتعثرة، لتستنج انه ليس بمقدور البنك المركزي تحمل هذه الفجوة. وبالتالي يتعذّر عليه أن يعيد للبنوك مجمل ودائعها لديه ( تبلغ نحو 70 مليار دولار). واستتباعاً «لا يمكن للبنوك ان تعيد غالبية أموال مودعيها في الوقت الذي يطلبونه وبالعملة ذاتها».

هكذا تبيّن الحكومة، خلاصة دورة انتقال الأموال من الادخار في البنوك الى «ذمة» مصرف لبنان. لكنها تغفل تماماً عن ذكر المحطة الأخيرة للدورة، والتي أفصح عنها حاكم البنك المركزي نفسه بتاريخ 21 يونيو، ومفادها أن الدولة سحبت من المركزي بموجب قوانين، 62.7 مليار دولار، وكلها تصبّ في خانة صرف الأموال على الدعم وتثبيت سعر الصرف والفوائد المرتفعة والكهرباء وحاجات الدولة من الاستيراد وغيرها.

وبالتالي، وجدت المصارف في الإقفال المتكرر «وصفةً ناجعة» للتخفيف من حالات الاقتحامات لفروعها من مودعين مندفعين باحتياجات نقدية تغلب عليها الدواعي الطبية والاستشفائية. لكنها لم تتردد في الخروج عن ديبلوماسيتها المعهودة، لتؤكد أن الدولة تتحمل الجزء الأول والأكبر من مسؤولية الفجوة المالية وهي ملزَمة بالتعويض عنها تطبيقاَ لأحكام القانون ولا سيما بفعل عمليات الهدر والاقتراض وعدم ضبط التهريب وأيضاً وفقاً لأحكام المادة 113 من قانون النقد والتسليف وتنفيذاً لالتزاماتها التعاقدية في موضوع اليوروبنودز، وانها هي التي أقرت الموازنات وصرفت بموجب قوانين وهدرتْ ومن ثم أعلنت توقفها عن الدفع، ومبيّنةً في السياق عينه أن المصارف مستعدة للمساهمةً بتحمل المسؤولية الوطنية لإيجاد حل قانوني وعادل يجب أن ترعاه الدولة بأسرع وقت ممكن.