... وكأن كل شيء يسبق مجدداً لبنان الرسمي في محاولاتِه اليائسة لفرملة مسار الانهيار الكبير وانزلاقه نحو الارتطام المروّع.
هكذا بدا المشهدُ في بيروت أمس التي لم تكد «تهْنأ» باقترابِ وصول «لقمة» الترسيم البحري مع إسرائيل «إلى الفم»، حتى بدا أن كل ما بدأ يُبنى عليه من «أحلام» نهوضٍ من تحت الركام المالي - ولو بعد حين - بـ «أوكسيجين مائي» من تحت البحر وكنوزه الدفينة، يبقى مجرّد أوهام «دونكيشوتية» وأن «سباق النجاة» الحقيقي يحتدم الآن بكوابيسه التي عادت تقبض على أنفاس اللبنانيين ويومياتهم المثقلة بهمومٍ مفتوحة على المزيد من الأيام السود.
ولم يكن عابراً أن يكون هديرُ الاختناقاتِ المعيشية واستعادة مشهدية اقتحام المصارف من مودعين غاضبين يريدون تحصيل حقوقهم المهدورة «بأيديهم» و«مانيفست» جمعية مصارف لبنان رداً على مسار يُشتمّ منه محاولة استفرادها وترْكها وحيدةً في «ساحة الشيطنة» والمسؤولية عن فجوة مالية لا تنفكّ تتسع، أقوى من «الشياطين الصغيرة» في آخِر فصول مفاوضات الترسيم البحري والتي مضى لبنان الرسمي في ملاحقتها درءاً لأي «مفخخات» إسرائيلية أو «عبوات نائمة» بين أسطر العرض الأميركي الذي استعجلتْ واشنطن الجانبَ اللبناني تسليمها الرد عليه في ضوء الملاحظات التي ارتأت بيروت أن تضعها.
واستوقف دوائر مطلعة في بيروت «الغبارُ» الذي يُخشى أن يكون متعمّداً أو «فتيلاً» لتعقيد الأمتار الأخيرة من الاتفاق البحري والذي يتصل بـ «خط الطفافات» الذي كانت تل أبيب حددتْه من جانب واحد في 2000 وتروّج أنها بموجب «بروتوكول الناقورة» المرتقب ستحظى باعترافٍ دولي بسيادتها عليه (يقضم نحو 5 كيلومترات مربعة من المياه اللبنانية قبل أن يلاقي الخط 23 المعتمد مرتكزاً للاتفاق) وكأن في الأمر ما يشبه «ملحقاً أمنياً» سرياً للاتفاق، في مقابل رفْض لبنان أي اعتراف بـ «خط العوامات» أو بوجود منطقة آمنة يفرضها الأمر الواقع وتكون تحت سيطرة إسرائيل.
وفي غضون ذلك، التقى نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب (المكلف من الرئيس ميشال عون ملف الترسيم) أمس سفيرة الولايات المتحدة دوروثي شيا التي اطلعت منه على نتائج المحادثات التي جرت في القصر الرئاسي أول من أمس حول ملف الترسيم والملاحظات النهائية التي وضعها الجانب اللبناني على المسودة التي وصلت من الوسيط آموس هوكشتاين.
وقد أكدت شيا «ضرورة الإسراع في إنجاز الرد اللبناني»، مبدية «اهتمام بلادها بإنجاز هذا الملف في أقرب وقت».
على أن هذا العنوان والضوضاء الكبيرة التي يُحْدِثها في إسرائيل، سرق الأضواء منه في بيروت تحوُّل المصارف لليوم الثاني على التوالي هدفاً قديماً - جديداً لمودعين غاضبين يسعون لتحرير ودائعهم المحتجزة (بالدولار) منذ بدء الانهيار الشامل وانكشاف فجوة مالية هائلة بأكثر من 72 مليار دولار.
وبعد «الجمعة الأسود» في 16 سبتمبر الماضي الذي شهد «انتفاضة» مودعين بالجملة اقتحموا 8 مصارف وما تبعها من إضراب لمدة أسبوع كامل للبنوك، انفتح يوم أمس على مشهدية مماثلة مع توالي الدخول بالقوة إلى 4 بنوك في بيروت والشمال والجنوب والبقاع.
وفي شتورة اقتحم المؤهل أول المتقاعد في قوى الأمن الداخلي علي الساحلي بنك BLC شاهراً مسدّساً حربيّاً، ومطالباً بوديعته البالغة نحو 24 ألف دولار.
وفيما أفادت تقارير إعلامية أن الساحلي طالب المصرف مرات عدة بتحويل مبلغ 4300 دولار لابنه في أوكرانيا الذي تم فصله من الجامعة بسبب عدم تسديد القسط بالإضافة الى طرده من مسكنه، لم ينجح «ابو حسين» المنهَك في تحصيل ولو دولار بعدما نجح موظفون في المصرف بانتزاع السلاح منه، قبل أن يتم توقيفه وسط تأكيد مناصرين لجمعية «صرخة المودعين» كانوا يتضامنون معه أنه سبق أن عرض كليته للبيع ليُنقذ ابنه «المشرد» في غربته.
وفي حين نجح المودع علي حسن حدرج بعد اقتحامه بنك بيبلوس فرع صور مطالباً بوديعته التي تناهز 44 الف دولار في الحصول على مبلغ 352 مليون ليرة (أقل من 10 آلاف دولار وفق سعر صرف السوق)، فإن مفاجأة شكلها اقتحامٌ سلمي من المودع جورج سيام لمصرف «انتركونتينانتال» فرع الحازمية حيث نفّذ اعتصاماً مطالباً بالحصول على وديعته أو أقله على تعهّد بسداد مبلغ ألف دولار شهرياً له.
وسيام، هو من كبار المودعين في المصرف المذكور، كما أنه القنصل العام الفخري لإيرلندا في لبنان، واستقطبت اندفاعته الأنظار كونها جاءت خارج «السياق الديبلوماسي» وإن أبقى على «القفازات» في تعامله مع الوضع داخل البنك.
وفي طرابلس اقتحم عدد من موظفي شركة كهرباء قاديشا مصرف FNB احتجاجاً على قرار المصرف حسم 3 في المئة من رواتب ومستحقات الموظفين.
وجاء «ثلاثاء الاقتحامات» وسط استعداد البرلمان لتسلُّم مشروع قانون إعاد هيكلة القطاع المصرفي، وتسجيل الليرة أدنى مستوياتها على الإطلاق في مقابل الدولار، الذي قفز سعر صرفه للمرة الأولى إلى نحو 39 ألفاً و400 ليرة في السوق الموازية، على وقع استعدادات الأسواق لسريان رفع سعر استيفاء الدولار الجمركي من 1500 ليرة إلى 15 ألفاً، وهو ما يُنْذر بموجة عاتية جديدة من التضخم في ظل عدم قدرة الدولة على ضبْط، سواء عدم غش التجار ورفْع أسعار السلع التي سبق أن استوردوها على دولار 1500 أو ضمان التزام هؤلاء بلائحة السلع المشمولة أصلاً بهذا الدولار، فيما كانت هيئة «اوجيرو» (الذراع التنفيذية لوزارة الاتصالات) تعلن رفْع تعرفة الاتصالات الدولية وتقاضيها على منصة «صيرفة» (نحو 30 ألف ليرة).
واستفاد دولار السوق الموازية في تحليقه التاريخي من تحضير السلطات اللبنانية شعبها لقرب رفْع سعر الصرف الرسمي في مقابل العملة الخضراء من 1507 ليرات إلى 15000 ليرة للدولار الواحد، ومن استمرار ملف تأليف الحكومة الجديدة يراوح في دائرة التأزم ولو أن الاقتناع مازال سائداً بأن الفترة الفاصلة عن دخول البلاد الأيام العشرة الأخيرة من انتهاء ولاية عون (في 31 اكتوبر) قد تشهد انفراجة تولد معها حكومةٌ ستشكّل قاطرةً لمرحلة شغورٍ مديد في سدة الرئاسة الأولى في ضوء المؤشرات غير المريحة التي عبّرت عنها «جلسة جس النبض» التي افتتح معها البرلمان الانتخابات الرئاسية يوم الخميس الماضي وما تلاها من اشتراط حصول توافق على الرئيس لإمراره، وهو ما يعني دخول هذا الملف لعبة عض أصابع طويلة، بأبعاد محلية واقليمية، يتخللها عدّ لا يُعلم متى يتوقف لـ لا جلسات الانتخاب.
وأعطى رئيس حكومة تصريف الأعمال، المكلف تشكيل الحكومة، نجيب ميقاتي، أمس، إشارات واضحة إلى أن الطريق لم تصبح سالكة بعد في ملف التأليف، إذ أعلن «أننا ماضون في عملية تشكيل الحكومة الجديدة رغم العراقيل الكثيرة التي توضع في طريقنا والشروط والايحاءات التي تهدف الى إيجاد أمر واقع في أخطر مرحلة من تاريخنا».
وقال خلال رعايته إطلاق «منتدى شباب نهوض لبنان نحو مئوية جديدة» في «فندق فينيسيا»، «إننا مصممون على متابعة العمل وفق ما يقتضيه الدستور والمصلحة الوطنية، ولن يكون مسموحاً لأحد بتخريب المسار الدستوري وعرقلته»، متمنياً أن «يوفق المجلس النيابي في انتخاب رئيس جديد للبلاد ضمن المهلة الدستورية، لأن التحديات تقتضي اكتمال عقد المؤسسات الدستورية وتعاونها وتكاملها».
واذ لفت الى «ما يتعرّض له إتفاق الطائف من حملات غير بريئة»، شدد على أن «هذا الاتفاق، الذي بفضله توقّف المدفع وعادت مؤسسات الدولة إلى أداء دورها الطبيعي، هو اتفاق لا نقول إنه مُنْزَل، بل على الأكيد هو أفضل من الفوضى والديماغوجية».
كما شدد على أن «اتفاق الطائف هو الإطار الطبيعي، الذي يمكن أن يَجْمَع اللبنانيين على قواسم مشتركة، مع التشديد على تطبيق كل بنوده، روحاً ونصاً، ومع السعي الموضوعي، ومن ضمن ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا، إلى تطويره بما يتناسب مع الحداثة، مع الحفاظ على ما يضمن صيغة العيش المشترك بين أبنائه».