هدفت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، من خلال عدوانها الجديد على قطاع غزة، إلى إظهار قوتها والقول إنها لم تتحمل إهانة «سيف القدس» العام الماضي... وأنها حققت أهدافها بقتل قادة ميدانيين من «الجهاد الإسلامي» والإيحاء بأنها أنجزت الظروف الانتخابية المناسبة لها، وتالياً لم يعد هناك فائدة من مواصلة المعركة خوفاً من الخسائر التي ستمنى بها، كما قال لابيد، والذي تعتبر حكومته أنها وفرت أهدافاً عدة ولن يضرها إغداق الوعود على الوسطاء الإقليمين والدوليين، خصوصاً أنها لا تحترم اتفاقاتها ولا وعودها.
ولم تخطئ إسرائيل بتقديراتها للمعركة، التي صبت لمصلحة أهداف عدة تحضيراً للرضوخ لـ«حزب الله» اللبناني. إلا انها غفلت عن نقطتين مهمتين: خشيتها من دخول حركة «حماس» في المعركة. ومقارعتها «الجهاد» كتنظيم منفرد محاصر في بقعة صغيرة، لكنه يستطيع إلحاق الأذى بها رغم تفاوت الإمكانات العسكرية والتكنولوجية، وهي التي تعتبر نفسها أنها تملك أقوى جيوش الشرق الأوسط.
حصدت معركة إسرائيل، التي افتعلتها ضد غزة وبالتحديد في مواجهة «الجهاد» أقل بقليل من 400 قتيل وجريح. واستطاعت عزل «حماس» عن المعركة وتكبيد «الجهاد» خسائر في القادة، وتالياً فهي تعتبر نفسها منتصرة وتريد إنهاء المعركة بسرعة لتفادي أي خسائر بشرية أو مادية في حال استمرت المعركة إلى الأسبوع المقبل، الذي يعتبر بداية العمل وإنهاء وجود الملايين من المستوطنين في الملاجئ في «غلاف غزة»، الذي تعرض لمئات الصواريخ خلال الأيام الماضية.
وقد حولت صواريخ «الجهاد» منطقة الغلاف بشعاع 65 كيلومتراً إلى منطقة أشباح وفرضت على سكانها النزوح القسري لأن إسرائيل لم تستطع حماية المستوطنات، هي التي تمتلك أكبر قوة عسكرية وترسانة متقدمة تجعلها في مراتب الجيوش الكبرى.
وتُظهر إسرائيل أنها أخذت المبادرة ببدء المعركة واغتالت القادة التي أرادت القضاء عليهم، وهم كانوا من المسؤولين عن العمليات في شمال غزة (تيسير الجعبري) وجنوبها (خالد منصور). وتعتبر أن «الجهاد» لم تستطع توجيه ضربة موجعة لها ولم تحدث صواريخها إرباكاً داخلياً وتململاً كبيراً بين المدنيين لأنها قبلت بالهدنة بسرعة.
والنقطة الأهم، أن إسرائيل استطاعت تحييد «حماس» عن المعركة وما تمتلكه من قوة عسكرية كبيرة. وتصرفت على أساس انها استنزفت «بنك الأهداف»، وتالياً فإن من مصلحتها إنهاء المعركة وإطلاق الوعود للوسطاء، الذين كانوا يفاوضونها قبل بدء المعركة على فتح المعابر مع غزة وتهدئة الوضع بعد اختطاف قادة من «الجهاد» في مخيم جنين بداية الأسبوع الماضي، و«خدعتهم» بأن اغتالت الجعبري أثناء المفاوضات.
تعتقد إسرائيل أن قطاع غزة مؤلف من مجموعة من المخيمات واللاجئين، وتالياً فهي تنظر باستعلاء إليه، خصوصاً أن التنسيق مع السلطة الفلسطينية مازال على حاله، لاعتقاد الرئيس محمود عباس أن الصراع المسلح لا يفيد، وأن العمل السياسي والتعاون مع إسرائيل والمنظمات الغربية مهم جداً حتى ولو لم يحصل الفلسطينيون على أي مكتسبات من خلال الاتفاقات التي رعتها أميركا والغرب، الذي يرفع شعار «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ولو كانت معتدية دائماً، وسط تقديم الدول الغربية المساعدات المادية والعسكرية والاستخباراتية لإسرائيل والسماح لها بعزل الملايين داخل القطاع واقتطاع الأراضي لإنشاء المستوطنات دون معارضة.
وهذا ما يساعد حكام تل أبيب على الاستهتار بحقوق الفلسطينيين ومحاصرتهم، براً وجواً وبحراً، لأنها استطاعت التأقلم مع قدرات المقاومة، وهي تلجأ دائماً للوساطة لإخراجها من أي ورطة عسكرية لا تصب في مصلحتها لتستطيع تسجيل انتصار سريع يستخدمه قادتها في انتخاباتهم أو لدعم شعبيتهم دائماً على حساب حياة الفلسطينيين.
وأرادت إسرائيل جذب أنظار العالم إليها من جديد، لا سيما الغرب المنشغل في الحرب على روسيا والتحضير لمعركة أخرى مع الصين، لتقول له إنها تستطيع إزعاجه وأن الاتفاق النووي مع إيران يُغضبها وهي توجه ضربة لحليفها «الجهاد»، وتالياً فهناك إمكان لإضعاف طهران من دون الخضوع لها، خوفاً من برنامجها النووي.
لم تخطئ إسرائيل في حساباتها بقتل قادة «الجهاد». فهي بعثت برسالة إلى إيران التي استقبلت الأمين العام للحركة زياد النخالة، قبل أيام من اغتيال الجعبري. وتعلم إسرائيل أن «حلف المقاومة» لا يريد الحرب الكبرى معها اليوم لأنه يتحضر للمواجهة الأكبر ويأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية.
ونجحت إسرائيل في تحييد «حماس» من المعركة بحركة ذكية عبر وضع قادة الحركة أمام خيار الحرب المفتوحة إذا تدخلت أو معركة صغيرة لا تكلف القطاع الكثير كما حصل عام 2021 خلال 11 يوماً في معركة «سيف القدس».
فتل أبيب تدرك أن غزة لم تتعافَ من الحرب الأخيرة، وأن الأمن الغذائي والصحي في أدنى مستوياته وأن البنية التحتية قد تضررت ولم تبن الوحدات السكنية المدمرة لغاية اليوم وأن مستوى البطالة قد بلغ 65 في المئة.
ومن الواضح أن المسؤولين الإسرائيليين في الحكم أوصلوا إلى شعبهم رسالة بأنهم لا يترددون في الدخول إلى المعركة عندما تكون هناك فائدة لأمنهم، وتالياً فإن قبول الاتفاق مع لبنان حول ترسيم الحدود البحرية لا يعني الخوف من تهديد «حزب الله» بل يعود إلى أن تقدير الموقف لا يصب في مصلحة إسرائيل إذا ما دخلت في الحرب، بل إن تجنبها هو قرار مدروس لا ينبع عن تردد الإسرائيليين في مواجهة «حزب الله».
أما «الجهاد»، فقد استطاعت ترسيخ واقع مؤداه أنه رغم صغر حجمها تستطيع ضرب 330 صاروخاً يومياً وإحداث شلل في إسرائيل وضرب الوعي الإسرائيلي والقول إنه ليس في أمان، والجغرافيا المحتلة اسمها فلسطين ولن يتاح له ولأجياله، المستقبل الهادئ.
أثبتت مواجهات غزة سقوط مقولة إن إسرائيل استعادت منظومة الردع وذلك عبر هروب المستوطنين الذين عجزت عن حمايتهم بعد سبعين عاماً من احتلالها. وفرض إيقاف العقوبات وفتح المعابر مع غزة وإعادة تدفق الوقود. وكذلك استطاعت إرسال رسالة واضحة بأن الملف الفلسطيني هو ملف وطني لأن الطلب بإطلاق سراح الأسير خليل العواودة (من الضفة الغربية) يؤكد ربط الساحات والجبهات والقضايا على أرض فلسطين.
كذلك فرضت على إسرائيل أن تفرج عن الشيخ غسان السعدي الذي اعتقلته بخديعة مركبة استخدمت فيها التفاوض على التهدئة لتذهب وتعتقله ومن ثم تقتل الجعبري.
هكذا خرجت إسرائيل تلهث وراء الوسطاء لتوقف القتال مع فصيل صغير، هي التي تؤكد من جديد أنها مجتمع بُني على جيش عقيدته الحرب والقتال وليس السلم وعلى سرقة الأراضي الفلسطينية وليس التعايش وعلى قتل المدنيين من دون هوادة... إنها معركة تنتهي عاجلاً أم آجلاً بوقف إطلاق النار وليس بالسلام، إلى أن يحين موعد المعركة التالية.