كرّس الدخولُ النيابي من بوابة لجنة المال والموازنة على خط «مذكرة السياسات المالية والاقتصادية» المُلْحَقة بخطة التعافي التي أقرّتْها الحكومة، التحولَ النوعي المرتقَب في ديناميةِ الانتقال بالملف اللبناني مع صندوق النقد الدولي من صيغة الاتفاق الأوّلي المبرَم والمتوقف في محطة انتظارٍ غير محددةٍ بمهلة زمنية، إلى تحفيز الدفعِ صوب اتفاقية نهائية تحظى بتوافق وطني عريض، وبما يكفل إنعاشَ التطلعات لإمكان عرضه ضمن مهلة شهرين، للمصادقة من قبل الادارة العليا للصندوق.

ويقتضي هذا التحول، والذي سبق لـ «الراي» أن انفردتْ بعرْض معالمه قبيل مشاركة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وفريقه الاقتصادي باجتماعات لجنة المال يوم الخميس الماضي، بتسريع إقرار مشروع قانون موازنة السنة الحالية، ليس من مدخل الاستجابة لأول شروط الصندوق فحسب، انما بهدف إحداث خرْق حقيقي في إعادة هيكلة قائمتيْ الإنفاق والواردات في حسابات الخزينة، وبما يمكّن الحكومة من تلبية جزءٍ من مَطالب القطاع العام الذي يستمر بنتفيذ إضرابٍ عن العمل بسبب التقلص الحاد للرواتب مقابل نِسَب التضخم المفرط التي تعدّت الألف في المئة، وتُواصِل التحليق بمتوسطات شهرية تقارب متوسط 10 في المئة شهرياً على المؤشر التراكمي.

كما يقع في صلب الدينامية الجديدة، بحسب مصادر مالية معنية، التزامُ رئيس الحكومة وفريقه الوزاري والاستشاري بتسريع التضمين «المكتوب نصاً واقتراحات»، طبقاً لما ادلى به خلال اجتماع اللجنة وردوده التوضيحية على أسئلة النواب وهواجسهم. ذلك أن التعديلات «الشفوية» اعتبرها النواب بمنزلة خطة جديدة، ولا سيما لجهة احترام قاعدة توزيع الخسائر تبعاً للمسؤوليات، واقتراح إنشاء صندوقٍ للتعافي متعدد المصادر المالية من أجل المساهمة في إعادة جزء من الودائع المصرفية التي تتعدى خط الحماية المحدد بمبلغ 100 ألف دولار لكل حساب مصرفي.

ووفق تأكيدات رئيس لجنة المال والموازنة النيابية ابرهيم كنعان، فثمة «تغييرات وتطويرات وأمور جوهرية يتم العمل عليها، منها إنشاء صندوق، والعمل على الودائع». وموقف النواب الجامِع هو أن حقوقَ المودعين مكفولةٌ في الدستور ويجب أن تُؤمَّن من خلال توزيعٍ عادلٍ للخسائر في خطة التعافي التي لم تتم إحالتها بعد على البرلمان. كذلك تم الطلب من وزارة المال إعداد دراسة خلال أيام تتعلق بتحديد سعر الصرف ومدى تأثيره على المُواطن من أجل إقرار الموازنة التي تتضمّن تَعَدُّداً في أسعار الصرف.

وبدا أن القطاعَ المالي لم يكن بمنأى عن الأجواء المستجدة، بدليل التصحيح الأقرب للتراجع عن مضمونِ كتابٍ وجّهه مستشارٌ لجمعية المصارف إلى بعثة الصندوق المنوطة بالملف اللبناني، لتعود الجمعيةُ وتُصْدِر بياناً رسمياً نقيضاً، وفيه «يهمّ جمعية مصارف لبنان أن توضح أنها لا تعارض بالمطلق الاتفاق بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، وخصوصاً أنها تعتبر أن هذا الاتفاق هو أحد أهمّ أبواب الحل للخروج من الأزمة الحالية، إلا أن الجمعية تشدّد في الوقت عيْنه على أن أي حلٍّ يجب أن يُوَفِّقَ بين تراتبيةِ المسؤوليات ونسبة تَحَمُّلِ الخسائر، فلا يتمّ تحميل القطاع المصرفي والمودعين كافة الخسائر التي تَسَبَّبَ بها القطاع العام على مر السنين، وأن الجهود يجب أن تتضافر للبحث في الحلول المتوافرة حالياً لردم الفجوة المالية عبر المحافظة على الودائع وليس شطبها».

وفي موقفٍ مُواكِب للتوجهات الإيجابية قبيل مداخلات ميقاتي في مجلس النواب، كرر مجلس إدارة جمعية المصارف موقفه الداعي إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي كونه السبيل الأفضل لإعادة هيكلة الاقتصاد وتأهيله من خلال إقرار الإصلاحات الضرورية والشروع بتنفيذها. كما أكد «أن توزيع المسؤوليات يجب أن يتم بشكل عادل وقانوني يحمي أموال كافة المودعين بالدرجة الأولى. ذلك أن الدولةَ التي أنفقتْ الأموالَ لديها ما يكفي من الموارد المستقبلية لتغطية مسؤولياتها، وذلك من خلال هيكليةٍ تُحافِظُ على أصولِ الدولة وتُحَسِّنُ إدارتَها وتزيدُ مردودَها بما يساهم بحل أزمة المودعين ويصبّ بالخير العام، وتكون خطوةً واقعيةً وبنّاءةً في مسار الإصلاح».

كذلك، تحظى البيانات المالية الموثقة التي أفصح عنها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأهمية خاصة في إعادة النظر بقاعدة توزيع المسؤوليات والخسائر، بخلافِ ما نحت إليه التوجهات السابقة للحكومة بإلقاء الوزر الأكبر من أحمال الفجوة المالية على المودعين في البنوك ورساميلها عبر «شطب» 60 مليار دولار من توظيفات المصارف لدى البنك المركزي والبالغة نحو 80 مليار دولار.

وقد أظهرت هذه البيانات أن الدولةَ استهلكت ما يوازي هذه المبالغ خلال الفترة الممتدة من 2010 حتى 2021، حيث أَنْفَقَ قطاعُ الطاقة نقداً نحو 24.5 مليار دولار، واستهلك القطاع العام نحو 8.3 مليار دولار، وتم تمويل الاستيراد للمواد المدعومة بكلفة ناهزت 7.6 مليار دولار، إضافة إلى الخسائر التي تَكَبَّدَها مصرف لبنان من تمويله لسندات الدين الدولية «يوروبوندز» والبالغة نحو 7.4 مليار دولار، فضلاً عن كلفة الفائدة على هذه الأموال التي قاربت 15 مليار دولار. وبذلك تكون الدولة قد أنفقتْ، وبموجب قوانين وخلال 10سنوات، نحو 62.7 مليار دولار.