لم يعكس الهدوء النسبي للعاصفة النقدية المتجددة في أسواق بيروت المالية، تحولاً حقيقياً لكبح جماح التدهور المستجدّ السريع والمريع الذي تنزلق إليه العملة الوطنية، مُنْذِراً بتعميقٍ أكثر حدة للأزمات المعيشية التي يتوسع نطاقها لتشمل كامل مستويات مداخيل الموظفين في القطاعين العام والخاص المحرَّرة بالليرة اللبنانية، وتتمدّد الى السحوبات من المدخرات في البنوك التي تخضع للتقنين القاسي والاقتطاع المسبق من قيمها الدولارية.

ولعل مصادفة يوم العطلة الرسمية في 25 مايو لمناسبة «عيد التحرير» منح هامشاً قليلاً من الوقت المستقطع لالتقاط الأنفاس واستيعاب الموجات الأولى للتسونامي المستأنف على جبهتيْ النقد والتضخم. إلا أن الإشارات السوقية التي رصدتْها «الراي» تُبْقي الاستنفارَ النفسي على أعلى درجاته لدى التجار والمواطنين على حد سواء، بعدما أظهرت مبادلاتٌ محدودة الحجم استمرار منحى سعر الدولار الى الصعود محاكياً عتبة 35 الف ليرة، بالتوازي مع ترقُّب تسجيل ارتفاعات قياسية إضافية في أسعار المشتقات النفطية كافة يوم الخميس واستمرار تنفيذ تعديلات سعرية على مجمل قوائم السلع والمواد في السوبرماركت ومحلات البيع بالتجزئة.

وتلفت مصادر ناشطة في أسواق الاستهلاك الى أثقال مضافة ووازنة ستطرأ نهاية هذا الشهر والشهر المقبل، ربْطاً بجنون بدلات الاشتراك بالتيار الكهربائي من المولدات الخاصة بعد الارتفاعات المتواصلة لأسعار المازوت، وبعدها بدء تطبيق الجداول الجديدة لخدمات الاتصالات الهاتفية والخليوية والانترنت التي ستتضاعف أسعارها 3 مرات على الأقل، وربما تتعداها نتيجة ربط التسعير الجديد بسعر الدولار المنفَّذ على منصة «صيرفة» التي يديرها البنك المركزي وتتأثّر تلقائياً بمنحى المبادلات النقدية في الأسواق غير النظامية. وكل ذلك ضمن بداياتِ ارتفاعاتٍ ستشمل كامل منظومة الخدمات العامة والحكومية.

ومن الواضح، بحسب اقتصاديين ومحلّلين تَواصَلَتْ معهم «الراي»، أن الوقائع الحالية تشي بتسريع مسار الارتطام الكبير الذي يُخشى أن يشمل جميع المقيمين في البلاد مع تخطي التضخم الألف في المئة الأولى من رحلته، سواء منهم الغالبية بنسبة تربو على 80 في المئة واقعة أساساً تحت خط الفقر، أو ما بقي من فئاتٍ اجتماعية «صامدة» باتت تواجه شحاً كبيراً في السيولة النقدية بسبب التضخم المتفلّت من جهة، والعجز عن الاستحصال على سيولة إضافية من البنوك من جهة أخرى.

ويزيد في منسوب العجز والتضاؤل الحاد في القدرات الشرائية، تَوَسُّع ظاهرة رفض قبول سداد أثمان المشتريات عبر بطاقات الدفع التي تضخ فيها البنوك جزءاً من السيولة، بحيث أضحت «لزوم ما لايلزم» في الجيوب الفارغة في ظل خفض السوبرماركت مثلاً تباعاً نسبة المبالغ لقاء المشتريات التي تسمح بسدادها من البطاقات إذ باتت بنحو 25 في المئة والباقي نقداً، بينما يشتد الخناق في توزيع السيولة المتاحة «كاش» والبالغة بالمتوسط نحو 5 ملايين ليرة شهرياً مهما بلغ حجم الوديعة، وهي بالكاد تغطي كلفة الكهرباء أو النقل بعدما تعدى سعر صفيحة البنزين نطاق 600 الف ليرة.

ومن المؤكد أن ما عجزتْ عنه الحكومةُ المكتملة المهام التنفيذية في 10 أشهر لجهة إدارة البلاد وشؤون الناس، سيصبح أكثر استعصاءً إذ انها لن تكون قادرة على حِمل أي أثقال مستجدة في عصر «تصريف الأعمال» في نطاقه الضيق. ويسري الأمر عينه على السلطة النقدية المتمثلة بمصرف لبنان والتي أضحت في وضعية العجز الصريح عن تولي الدور المحوري في تهدئة أسواق القطع ورفد الأسواق بالسيولة من العملات الصعبة، بعدما تدنّى المخزون لديه إلى أقلّ من 10 مليارات دولار، وتم تبديد أكثر من 20 مليار دولار خلال سنتين ونيف من الأزمة من دون التمكن من استيعاب الانهيار المستمر وتداعياته الكارثية نقدياً ومعيشياً.



وفي انتظار أوهام اتفاقية التمويل مع صندوق النقد الدولي بمبلغ 3 مليارات دولار موزَّعة على 4 سنوات، وهو مرجح «لطول العمر يا معمر» في ظل استعادة مشاهد التباعد الداخلي والسجالات المفتوحة التي تنذر بتأجيل طويل لاستحقاقيْ تأليف حكومة جديدة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل نهاية اكتوبر المقبل، يبدو واضحاً أن المقيمين جميعاً باتوا متروكين لمصيرهم ولن تكون «الكآبة» الشاملة التي تظلل معيشة الناس آخر المطاف في رحلة العذابات المقبلة على مخاطر تشظيات أخطر وأدهى قد لا تقتصر على الجانب المعيشي والاجتماعي فقط.

ومن الثابت أن اليد الممدودة من البنك الدولي ومن مؤسسات أممية ودولية واقليمية عبر برامج المساعدات النقدية والعينية تخفف نسبياً من سرعة حماوة البركان المعيشي الذي يرجَّح أن يضرب خبط عشواء وبقسوة بالغة في كامل منظومة الغذاء والدواء والاستشفاء، ومن دون استثناء سائر مجالات الحياة اليومية. لكن مجرى التطورات يشي حتى بخطر وقف الكثير من هذه البرامج في حال لم تكتمل استحقاقات إعادة تشكيل السلطات المعنية بالتنسيق والتعاون مع المصادر المانحة.