من حي الدهلة في مدينة الكويت حيث ولد إلى اليوم، 95 عاماً حطت على كتفيه فما زادتهما سوى استقامة... 95 مرت، تخللتها سيرة أشبه بمرايا التاريخ، توثّق حقبة تلو أخرى وعصراً تلو آخر، وترسم شهادة شاهد على قرن عصفت به تطورات مذهلة، كتبها برؤية العين، وخاضها بالتجربة، وخرج منها بثوب أبيض كبياض قلبه الذي خاصم بشرف وسامح بشهامة.

أحمد الخطيب شاهد على قرن، وشريك في مختلف التطورات والأحداث التي مرت على الكويت. كشف جزءاً مهماً منها في مذكراته ومقابلاته وأخفى الكثير رغبة منه في عدم فرض وجهة نظره على الأجيال القادمة التي أرادها عنصراً فاعلاً في قلب الحدث.

كانت تجربته هي «الصندوق الأبيض»، الحافظ لمعلومات تتعلق بجوهر الكويت الحرة الديموقراطية التعددية التي عاش عمره كله حارساً لقيمها ومقاتلاً شرساً لاستمرارها.

رجل لم يكن يؤمن بأنصاف الحلول، فإما الكويت التي أرادها الرعيل الذي انتمى اليه وإما المعارضة الشرسة تحت سقف الدستور والقانون.

كان ينتقد السلطة ويعتبر أنها تفرّغ الدستور من مضمونه عبر استخدام أسلحة محرّمة لحصد الولاءات سواء بالتجنيس العشوائي أو بالتضييق على المؤسسات السياسية والاجتماعية التي تعبر عن وجهة نظر القوميين والليبراليين أو بتقوية تيار الإسلام السياسي، وفي القوة نفسها كان ينتقد المعارضين الذين يتجاوزون سقف الدستور في تحركاتهم بحجة الدفاع عنه، ويعتبر أي معارضة تنطلق من أسس مذهبية أو قبلية أو مناطقية بمثابة إضعاف للدستور والدولة والمؤسسات.

من الدهلة، ذلك الحي الذي سكنه خليط من بسطاء الكويت من مختلف الانتماءات متحابين متآلفين، الى كتّاب العنجري، فالمدرسة الأحمدية ثم القبلية فالمباركية، ثم إلى بيروت في 1942 فينهي الثانوية ويدخل الجامعة الأميركية ويتخرج منها طبيباً في العام 1952.

ويشاء القدر أن تكون بيروت منطلقاً لنضال الدكتور الخطيب، وأن تكون هي ذاتها المكان الذي كتب فيه مذكراته بعد ستين عاماً، تحت قصف الطائرات الإسرائيلية في حربها على لبنان في العام 2006.

«عدت محملاً بمشروع قومي واعد كنت أرى فيه خلاص الأمة من الضياع والتشتت»... بهذه الروحية عاد الخطيب إلى بلده الكويت في 1952 حاصلاً على شهادة الطب، وواصل رسالته الإنسانية معالجاً المرضى مجاناً أو بأسعار رمزية لأكثر من نصف قرن، لتكتسب «إبرته» شهرة في شفاء الأمراض.

«إبرة الخطيب»، لم تكن مصطلحاً طبياً فحسب بل هي مصطلح سياسي أيضاً. فعندما تشتد الأزمات يقول كثيرون: «ما يحلها إلا إبرة الخطيب»، ولم يبخل الدكتور بالعلاج حتى عندما اعتبر أن الزمان لم يعد زمانه وأن «الغوغاء» صاروا السمة المشتركة بين بعض من في السلطة وبعض من في المعارضة.

خاض غمار النضال بكل تفاصيله. مع الفدائيين المنخرطين في مواجهة اغتصاب إسرائيل للأرض.

مع القوميين العرب في كل مكان دعماً لمشروع التقارب والوحدة.

مع رفاق الدرب داخل الكويت تثبيتاً لدولة الدستور والمؤسسات عبر العمل البرلماني والإعلامي.

مع إخوانه في مختلف التيارات لإقامة نوادٍ وجمعيات تدافع عن الحريات العامة.

مع أصحاب الرداء الأبيض لبناء صرح من الإنجازات الطبية.

وفي الفصل الذي فرده للحديث عن علاقته بالشيخ عبدالله السالم ينقل الخطيب أن المغفور له استقبله حينما أتى بالشهادة خير استقبال، بل ارتجل له بيتاً قال فيه: «وينك تشوف اعيالك يا الخطيب... واحد معلم والثاني طبيب».

رحمك الله يا دكتور، يا طبيب يا حكيم، يا مؤسس، يا معارض، يا مناضل.

لم تستغنِ الكويت عن «إبرتك»، لا عندما أرسل «الشقيق القومي» رياحه المسمومة، ولا عندما ظلم الكويت ذوو القربى، ولا عندما ساهم بعض أهلها في تدمير المؤسسات، ولا عندما عاقبت السلطة تياراً بعينه ومارست القمع ضد جمعياته ونواديه، ولا عندما صارت الدولة مهجرة في الشتات. رحمك الله يا من كنت رمزاً وقدوة للشباب، تعيدهم الى بوصلة التحرك السياسي الراقي والحضاري في اللحظات التي عجت بالحماسة وضجت بالمزايدات.

... رحمك الله يا صاحب الثوب الأبيض والقلب الأبيض والسيرة البيضاء. تركت لنا بعضاً من تجربة موثقة وتركتنا نبحث في المسيرة عما يوصل الأجيال القادمة الى الكويت التي أحببتها وأحببناها معك.