في عالمنا المعاصر، عادة ما يجد عمالقة تكنولوجيا التواصل الاجتماعي - مثل تويتر وغوغل وميتا (فيسبوك وواتساب) وتليغرام وأبل وغيرها – نفسها في موضع التجاذب خلال أي صراع محلي أو دولي، وهو الموضع الذي باتت عالقة فيه حالياً بين مطالب وضغوطات من جانب كل من روسيا وحلفائها من جهة وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة ثانية.
هكذا، خلقت أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا لحظة جيوسياسية حاسمة تختبر مدى صمود ونفوذ شركات التكنولوجيا العالمية العملاقة، حيث تحولت منصات تلك الشركات إلى «ساحات قتال» موازية تدور فيها رحى حرب معلومات وأصبحت الخدمات والبيانات التي تقدمها تلك المنصات بمثابة روابط حيوية في الصراع الدائر.
وعلى مدار الأيام القليلة الماضية – أي منذ بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا - وجدت تلك المنصات العالمية نفسها مجبرة على التعامل مع كيفية ممارسة قوتها ونفوذها، وذلك في خضم مطالب متصاعدة من جانب سلطات الدول على جانبي الصراع.
ففي يوم الجمعة الفائت، ناشد القادة الأوكرانيون شركات أبل وميتا وغوغل تقييد خدماتها داخل روسيا. ثم قامت غوغل وفيسبوك بمنع وسائل الإعلام الروسية التي تديرها الدولة من بيع إعلانات عبر منصاتهما. كما تناقش كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي مع سوندار بيتشاي - الرئيس التنفيذي لشركة غوغل - حول كيفية التصدي لحملة المعلومات التضليلية التي تقودها روسيا.
في الوقت نفسه، هدد تطبيق تليغرام - وهو تطبيق مراسلة واسع الاستخدام في كلٍ من روسيا وأوكرانيا - بإغلاق حسابات القنوات المتعلقة بالحرب الأوكرانية بسبب انتشار المعلومات المضللة.
وفي الأسبوع الجاري، أعلن موقع تويتر أنه سيضيف شارة تحذيرية إلى جميع التغريدات التي تحوي روابط لوسائل إعلامية روسية تابعة للدولة. وبالمثل، أعلنت منصتا فيسبوك ويوتيوب أنهما ستفرضان قيوداً على إمكانية الوصول إلى بعض المنافذ الإعلامية الروسية لدرء الدعاية للحرب.
والواقع أنه بالنسبة لتلك المنصات، تعتبر الحرب فرصة كي تعيد ترميم وتأهيل سمعتها بعد أن واجهت تساؤلات وشكوك خلال السنوات الأخيرة الفائتة حول قضايا الخصوصية والهيمنة السوقية والتغاضي عن نشر المحتوى المثير للانقسام.
والآن، بات لدى تلك المنصات فرصة لإظهار مدى استعدادها وقدرتها على استخدام تقنياتها للأبد بطريقة لم يشهدها العالم منذ الربيع العربي اعتباراً من العام 2011، عندما ربطت وسائل التواصل الاجتماعي النشطاء السياسيين في العالم العربي بل ورحبت بهم كأداة للديموقراطية.
لكن على أرض الواقع العملي، نجد أن تلك المنصات تواجه قرارات صعبة وتضعها في موقف أشبه بالسير على حبل مشدود. فأي خطوات غير محسوبة بعناية قد تكون باهظة التكاليف، حيث إنها من ناحية قد تضيف مزيداً من الزخم إلى الجهود المبذولة في أوروبا والولايات المتحدة في اتجاه السيطرة على توجهات تلك المنصات، ومن ناحية أخرى قد تدفع روسيا (وحلفائها) إلى حظرها تماماً.
ووفقاً لمصادر مطلعة، فإن كبار المسؤولين التنفيذيين في تلك الشركات بدأوا فعلياً في عقد اجتماعات مشتركة رفيعة المستوى من أجل التنسيق والاتفاق على قرارات جماعية في شأن ما يجب عليهم فعله إزاء الوضع الشائك الراهن بما يضمن تنفيذ الحد الجماعي المناسب من القيود، دون المخاطرة باستفزاز الحكومة الروسية وبما يضمن عدم حرمان المواطنين الروس العاديين عن خدمات التواصل (حتى وإن كانت البروباغندا الروسية تنتشر من خلالها).
ومع تصاعد الصراع، واصلت تلك الشركات التحرك نحو اتخاذ خطوات وفرض قيود إضافية في اتجاه كبح تداعيات الصراع.
ففي يوم الأحد الفائت، توقف قسم خرائط غوغل عن عرض معلومات حركة المرور داخل أوكرانيا بسبب مخاوف من أنها قد تخلق مخاطر تتعلق بالسلامة من خلال إظهار أماكن تجمع الناس.
وفي الاتجاه ذاته، أعلنت منصة فيسبوك أنها أزالت حملة تأثير دعائية مؤيدة للكرملين، كما حذفت حملة قرصنة كانت تستهدف مستخدمي فيسبوك داخل أوكرانيا.
ومنذ يوم الاثنين الفائت، بدأ تويتر في إرفاق تنبيه تحذيري مع جميع التغريدات التي تحوي روابط لوسائل إعلامية روسية تابعة للدولة، وذلك حتى يكون المستخدمون على دراية بطبيعة مصادر المعلومات.
وأعلن تويتر أنه منذ بدء الصراع في أوكرانيا، قام مستخدمون بتغريد أو إعادة تغريد روابط لوسائل إعلام حكومية روسية بمعدل 45 ألف مرة في اليوم.
لكن هناك من يحذرون من أنه ستكون هناك عواقب سلبية إذا تم تقييد منصات التواصل الاجتماعي في روسيا.
ومن هؤلاء أندريه سولداتوف، الصحافي الروسي وخبير الرقابة، حيث قال: «هذه المنصات هي أهم مكان للنقاش العام حول الأحداث الجارية. لذا، فإن جميع الروس – سواء المؤيدين منهم للكرملين أو المعارضين له – سيعتبرونها خطوة سيئة إذا قامت تلك المنصات بتقييد الوصول إليها داخل روسيا».
وتتجلى تأثيرات الصراع بين الضغوط المتناحرة في تجربة تطبيق «تليغرام» الذي يشيع استخدامه على نطاق واسع في كلٍ من روسيا وأوكرانيا لتبادل الصور ومقاطع الفيديو والمعلومات حول الحرب.
فهذا التطبيق أصبح هو الآخر ساحة لنشر المعلومات المضللة عن الحرب، كالصور ومقاطع الفيديو القديمة التي يتم نشرها باعتبارها من ساحات القتال.
وفي يوم الأحد الماضي، أبلغ بافيل دوروف – مؤسس تطبيق تليغرام – متابعيه بأنه يدرس حالياً حظر وإغلاق حسابات القنوات المتعلقة بالحرب داخل أوكرانيا وروسيا، وذلك لأنها «قد تؤدي إلى تفاقم الصراع والتحريض على الكراهية العرقية».
لكن عدداً كبيراً من مستخدمي التطبيق ردوا على ذلك بقلق قائلين إنهم يعتمدون على تليغرام للحصول على معلومات مستقلة. وبعد مرور أقل من ساعة، أعلن دوروف أنه قرر العدول عن فكرته تلك.
وهكذا، من الواضح أن أزمة العزو الروسي لأوكرانيا قد خلقت أجواء مشحونة وتحديات استثنائية تختبر مدى قدرة منصات التواصل الاجتماعي على إحداث التوازن بين صمودها (من خلال الحفاظ على مصالحها التجارية) وبين التزاماتها الأخلاقية (من خلال تسخير نفوذها لكبح انتشار المعلومات التي تؤجج الحرب).