قررت الأحزاب العراقية الشيعية، إزالة الحواجز من أمام المنطقة الخضراء ووقف الاعتصامات في بغداد، والتوجه تالياً نحو العملية السياسية بعد الموافقة على مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات.
وحصل ذلك بعد اتصالات حثيثة أجراها قادة الأحزاب الشيعية مع بعضهم البعض بغرض تجاوز الخلافات المبدئية التي استفحلت بين صفوفهم عند إعلان النتائج الأولية وخسارة أحزاب كثيرة لمقاعدها البرلمانية مما سيحدّ من نفوذها الحكومي المستقبلي.
وعلى الرغم من الاعتزاز الكبير الذي ساد التيار الصدري جراء الفوز بأكبر عدد من المقاعد النيابية (73 مقعداً) إلا أن المشوار بين إعلان النتائج وتشكيل الحكومة ما زال طويلاً وتشوبه عقبات جدية. ولهذا السبب، حصل الاجتماع الأول من نوعه في النجف الأشرف بين أكثر الأطراف الشيعية نفوذاً على الأرض باستثناء نوري المالكي الفائز بـ 33 مقعداً نيابياً لعدم نضوج التفاهمات السياسية بعد.
ويواظب السيد مقتدى الصدر، الفائز الأكبر، إعلانه المتواصل على «تويتر» ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، أن الحكومة المقبلة لن تكون شرقية (تابعة لإيران) ولا غربية (تابعة لأميركا) بل حكومة وطنية بعيدة عن المحاصصة.
إلا أن الصدر يدرك أن هذه المواصفات تخص الشارع العراقي وأنصاره ويهدف من خلالها إلى جذب عدد أكبر من المستقلين والإيحاء لمناصريه أنه باقٍ على موقفه المعلن سابقاً المناهض للمحاصصة.
بالإضافة إلى ذلك فإنه يريد القول أيضاً إن الحكم يجب ألا يعود لشخصيات معينة بل لخدمة العراق ككل، رغم أنه هو، كزعيم شعبي يمتلك قاعدة جماهيرية عريضة وقوة عسكرية مهمة، يُعتبر شخصية سياسية يتواجد ممثلوه في حكومات العراق منذ أعوام طويلة.
ولم يخرج اللقاء في النجف إلى توافق بل إلى اتفاق على لقاءات أخرى قريبة لبلورة الأفكار والتوصل إلى موقف موحد يضم جميع من يريد المشاركة في الحكم مع استثناء من أعلن عن رفضه الانخراط والبقاء بعيداً مثل السيد عمار الحكيم.
أما التحدي المبكر الذي سيواجهه التيار الصدري - إذا لم يحصل الاتفاق بين الأطراف الشيعية أولا - هو تحت قبة البرلمان المنتخب حديثاً عندما يجتمع النواب لأداء القسم، في التاسع من يناير، إيذاناً ببدء التحالفات بين الكتل والأحزاب. وهنا تنطلق المناكفة حول تفسير الدستور العراقي حيال من يحق له انتخاب رئيس الوزراء المقبل: هل هو الحزب الفائز بالعدد الأكبر قبل أداء النواب قسمهم أم بعد أدائه والشروع في تكتل التحالفات السياسية؟
ومهما كانت النتيجة التي لن تصدر إلا عبر تفاهمات سياسية، فإن الخطوة الثانية التي ستتصدر المشهد العراقي هي الاتفاق على تقاسم السلطة بين الأحزاب السياسية والمذاهب الرئيسية لكي لا يستخدم مصطلح المحاصصة الذي يبدو أنه يثير الحساسية.
فالصدر الذي رفع سقف بياناته بالقول إنه يرفض المحاصصة، سيضطر للنزول عن الشجرة من خلال إعطاء الأكراد من يريدونه لرئاسة الجمهورية، وإعطاء السُنة من يتفقون عليه لرئاسة المجلس النيابي ونائب رئيس الجمهورية عبر التفاهم بين أقوى حزبين، برئاسة محمد الحلبوسي (37 نائباً) وخميس الخنجر (34 نائباً بعد التحالفات).
إلا أن هذين الحزبين (من السنة) لم يتفقا بعد على الحصص في ما بينهما وسيتقرر ذلك بعد أن يقرر الحلبوسي (رئيس المجلس الحالي) والخنجر من سيتسلم رئاسة البرلمان التي من المرجح أن يستعيدها الرئيس الحالي. ويعتمد ذلك على توافق الأحزاب الشيعية أولاً، لأن الأحزاب السنية والكردية قررت عدم دعم طرف شيعي ضد آخر بل انتظار التفاهم داخل البيت الشيعي أولاً. ويبدو أن الأحزاب الكردية لم تختار بعد المرشح لرئاسة الجمهورية.
في الوقت الراهن، انقسم الشيعة إلى طرفين: طرف يمثله الصدر وطرف آخر أطلق على نفسه اسم الإطار التنسيقي ويضم أحزاباً نافذة من ضمنها أنصار الحشد الشعبي وممثلوه ومن ضمنهم نوري المالكي (34 نائباً).
إلا أن مصادر قيادية في بغداد أكدت أن الصدر لا يجد مانعاً بالتخاطب والتفاوض مع جميع المسؤولين السياسيين الشيعة، ولكنه يضع - في الوقت الحالي - فيتو على المالكي الذي يرغب في العودة إلى رئاسة الوزراء رغم استحالة مطلبه.
ولكن حقيقة الأمر تفرض على الصدر عدم معاداة أحد من القادة الشيعة لأن السُنة والأكراد سينتظرون الاتفاق الشيعي.
وقد أظهر السيد مقتدى براعة تفاوضية بإدارته اللعبة لغاية اليوم رغم خطئه بعدم الإسراع بإلزام هادي العامري بالاتفاق الموقع بينهما قبل الانتخابات وتباطئه بجذبه إليه قبل إعلان تشكيل الإطار التنسيقي. وفي نهاية الأمر، سيقبل المالكي بمقاعد حكومية ترضيه.
ولا يستطيع الصدر الذهاب وحده لاختيار الحكومة المقبلة لأنه يمتلك 73 نائباً ويحتاج إلى عدد يتيح له تشكيل ائتلافاً من 165 نائباً ليتمكن من تسمية رئيس الوزراء والاتفاق، كسلة واحدة، على اسم رئيس المجلس النيابي ورئيس الجمهورية في وقت واحد.
ويؤكد مسؤولون في بغداد أن الصدر لن يخرج عن البيت الشيعي ولن يعطي الأكراد والسنة تنازلات لا يريدها الشيعة، وتالياً فإنه سيتفاوض مع الأحزاب الشيعية ليذهب قوياً إلى الأطراف الأخرى السنية والكردية، وبذلك يحسن موقعه التفاوضي، خصوصاً بعدما أصبح يدير اللعبة السياسية من دون أن يكون المسيطر عليها.
وكان الصدر دعا القادة الشيعة - وهم العامري (زعيم الفتح) وفالح الفياض (القائد السياسي والتمثيلي للحشد) والشيخ قيس الخزعلي (الأمين العام لعصائب أهل الحق، المسؤول عن التظاهرات في بغداد في الأشهر الثلاثة الماضية اعتراضاً على نتائج الانتخابات) إلى اجتماع في النجف بعد أن كان زارهم أولاً في بغداد.
وقد تعمد عدم دعوة المالكي كـ«موقف سياسي»، ومن المؤكد أنه سيتراجع عنه في وقت لاحق لما يمثله المالكي من ثقل سياسي على الساحة الشيعية. وستستمر اللقاءات إلى حين خروج الدخان الأبيض من البيت الشيعي قبل الذهاب إلى إكمال العملية السياسية.
إنها مرحلة مُعقدة، وما إعلان النتائج النهائية للانتخابات إلا الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل لاختيار حُكام بغداد الجدد.