يحاول الدكتور إسماعيل الشطي في مؤلَّفه «جذور الثقافة في المنطقة العربية»، اكتشاف ثقافة سكان المنطقة العربية منذ آلاف السنين، وهي مسافة زمنية متنائية ومعتمة، ما يجبر الباحث على التوقف والسبر في كثير من العصور.

ولما كانت كلمة ثقافة واسعة وفضفاضة فإن ذلك يلزم المؤلف، البحث عن التصورات والأفكار والقيم والفنون والآداب وأنماط المعيشة.

ويرى الشطي أن الأدبيات المدونة منذ القرن الثالث الهجري، تعبر عن عقل صناع المعرفة الإسلامية وليس العقل العربي العام، في حين أن عمر ثقافة الإنسان العربي، لا يبدأ من اللحظة التي أطلق عليه عربياً بل يمتد آلاف السنين قبل تسميته، ليمضي إلى استنتاج أن إطلاق لفظ وثنيين على أهل المنطقة القدماء، أكذوبة يهودية مسيحية، أما القرآن فلم يستخدم كلمة وثني على غير المسلمين.

كما يعتبر أن الإنسان في هذه المنطقة صاحب رسالة منذ تواجده عليها هي بناء علاقة متوازنة مع الله والكون والحياة، فالإسلام يستطيع إعادة تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه وكونه والحياة فيه، في حين أن المخزون الثقافي للمنطقة يملك تصورات متزنة ونزعة إنسانية بالغة الرقي، قادر أن يعيد البشرية إلى رشدها.

الشطي في كتابه، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في أربعة أجزاء، يصدم المخزون الفكري العربي التقليدي.

وبعد غياب عقد كامل من الظهور الإعلامي يتحدث الدكتور إسماعيل الشطي لـ «الراي» عن مؤلَّفه الجديد، لماذا الآن؟ وما الهدف؟ وما هي الاستنتاجات التي خلص إليها في أبحاثه؟ ولماذا ابتعد عن الحياة السياسية؟ وفي ما يلي تفاصيل الحلقة الثانية من المقابلة:

• هل حديث الآحاد يتعارض مع نقل الذاكرة الجمعية؟

- كان جيل الصحابة يطلق على هذا الموروث عبارة (ما كان عليه العمل)، ولذلك كان يرد حديث الآحاد إذا خالف ما كان عليه العمل، بينما جيل الشافعي كان يطلق عليه حديث العامة، الذي لا يسع أحد جهله، ولذلك كان يرد حديث الخاصة إذا تعارض مع حديث العامة، وفي جيل مالك كان يطلق عليه (عمل أهل المدينة)، وكان مالك يرد حديث الآحاد إذا تعارض مع عمل أهل المدينة، ولم يشذ عن ذلك إلا أهل الحديث، عندما دخلوا مجال الفقه، وكتب الأصول المعتبرة تفرق ما بين السنة وحديث الآحاد، هكذا تقرأ في الموافقات للشاطبي، أو أصول السرخسي للسرخسي، إن إلصاق حديث الآحاد بالسنة عملية تلفيق قام بها أهل الحديث في ما بعد، وهذا ما بينته في كتابي.

• وما المشكلة في أن ينقل لنا حديث الآحاد السنة النبوية؟

- هناك مشكلة تاريخية في قبول حديث الآحاد كمصدر تشريعي ومعرفي، فكتابته بعد ثلاثة قرون من الزمان تضعف موثوقيته، وطريقة نقله عبر واحد سمع من النبي تقدحاً بمشروعيته، لمخالفته الأسلوب الذي اتبعه النبي في تبليغ الوحي، فلو كان المنقول وحياً لبلغه النبي للعامة وعلى العلن، وليس الاكتفاء بتبليغه لشخص واحد، بالإضافة إلى أن هناك اعتراضاً على ازدواجية المعايير التي تم فيها تقييم رجال السند، كل ذلك جعل من حديث الآحاد مصدراً ظنياً، وليس يقينياً، وأحاديث الآحاد التي استعان بها الخلفاء الراشدون كانت محددة في مجالات معينة، وبشروط متشددة، وضمن هذه المجالات والشروط نحتاج حديث الآحاد، أما رفضه نهائياً، فهذا تعسف مرفوض، وللأسف دفع هذا الأمر بعض المعاصرين للمطالبة بالاقتصار على ما ورد بالقرآن، ورفض ما جاء في كتب الحديث على اعتبار أنها موضع شك، وأطلقوا على أنفسهم (قرآنيون)، وانتهى الأمر بهؤلاء إلى تعويم الشعائر الإسلامية على بحر من القناعات الشخصية، وهذا تفكير ضحل سطحي.

إن أحاديث الآحاد هي إرث ثري، تتفاوت قيمة محتوياته، وهو يحتاج إلى منهجية جديدة في التصحيح والتضعيف، فالمناهج القائمة لا تستقيم مع الدين والعقل والمنطق، وفي ظل تطور مناهج النقد في البحث والتحليل صار لزاماً إبراز مواطن ضعفها وعوارها، والاجتهاد من جديد لإنتاج هذ المنهجية، وليس من حق أحد قفل باب الاجتهاد. لكن الشريعة الإسلامية في معظمها قائمة على أحاديث الآحاد، فماذا يبقى منها إذا تم استبعاد حديث الآحاد؟

- عندما تناولت هذا الموضوع في الجزء الرابع من كتابي لم أقرر موقفاً من حديث الآحاد، لقد كنت أسرد تاريخ المسلمين الأول في التعامل معه، ومنهجيتهم في تصحيحه، إذا كان كشف هذا التاريخ لا يصطف مع المنهجية السائدة حتى اليوم، فلا بد أن نبحث عن الخلل، لقد أغلق الصحابة باب الشريعة بعد وفاة النبي، ولم تتم إضافة تشريعات دينية إلا في نطاق ضيق، وفي الجوانب الخافية من الشعائر، حيث تم استدعاء أقوال النبي للخاصة، مثل ما يجب عمله عند السهو في الصلاة، وكيفية الطهارة عند الجماع من دون إنزال.

وكل الفتاوى التي صنعها الصحابة طوال القرن الأول كانت رأياً مدنياً، وليس دينياً، يؤكدون أنه اجتهاد قابل للخطأ والصواب، ولأن الاجتهاد عملية صناعة رأي، فصار للفقهاء سلطة الرأي على الجمهور، وهي سلطة تزاحم السلطة السياسية للأمويين والعباسيين، ولما كان معظم الفقهاء مستقلين يفتون بما يملي عليهم ضميرهم، وأن الجماهير لا تستجيب لفقهاء السلاطين، لذلك لجأ السلاطين إلى استبدال الرأي بحديث الآحاد، وترويج مواقفهم ومقولاتهم بنص ديني، ودفعوا به لترويجه إلى موظفي الدولة، وبذلك تم قفل باب الاجتهاد، أي قفل باب صناعة الرأي، فلا رأي أمام النص الديني المقدس، وهو ما أدى إلى فتح باب الشريعة من جديد وتوسعتها من خلال أحاديث الآحاد، وطالما كانت القاعدة لا اجتهاد مع النص، فالحل إغراق الساحة بالنصوص، ولهذا شكل عبدالملك بن مروان غرفة عمليات، تضم خبراء في صياغة أحاديث نبوية، وكتابتها في مطويات جلدية، وإرسالها إلى الأمصار لنشرها، فتم تجنيد موظفي الدولة من أئمة المساجد والمعلمين والخطباء والقصاصين والقضاة ومعاونيهم للقيام بمهمة النشر.

ومنذ عهد عبدالملك بن مروان الأموي حتى عهد الواثق بالله العباسي تشكلت طبقة من أهل الحديث، مدعومة من السلطات السياسية، التي قامت بتضخيم الشريعة من خلال ضخ أحاديث آحاد، حتى صارت الشريعة أضعاف مئات المرات مما جاء به القرآن والذاكرة الجمعية، وخلال تلك الفترة كان هناك صراع حقيقي بين أهل الاجتهاد والرأي وبين أهل الحديث، ورغم انتهاء هذا الصراع بالقضاء على أهل الاجتهاد والرأي، وسيادة أهل الحديث، إلى أنه خلال التاريخ الإسلامي كان الفقهاء الذين يستخدمون العقل والمنطق يصطدمون مع هشاشة المنظومة الحديثية، وهؤلاء أطلق عليهم الأصوليون.

• أفهم من إجابتك أن اعتراضك على حديث الآحاد منبعه الاقتناع بمدرسة أخرى في الفكر الإسلامي، ألا وهي مدرسة أهل الاجتهاد والرأي، أو ما يسمون اليوم بالأصوليين؟

- أنا لا أتعمد وضع نفسي في معارضة مدرسة الحديث، فلم يكن لي موقف مسبق بذلك، ولكن دواعي البحث قادتني لمعرفة الجانب المنسي من تاريخ الفكر الإسلامي، وهو تاريخ مدارس الفكر المعارضة لفكر أهل الحديث، كمدرسة أهل الرأي والاجتهاد، ومدرسة المعتزلة، وغيرهم، وهذه مدارس ترفض التوسع في مفهوم الشريعة خارج نطاق القرآن والسنة، وأن أية زيادة يصنعها الإنسان هي زيادة بشرية دنيوية، لا علاقة لها بالقانون الإلهي، أي لا تعد من الشريعة، وهو ما رفضه أهل الحديث واتفقوا مع الإمام الشافعي للرد على ذلك، فكتب كتابه الرسالة الذي وضع مع القرآن والسنة ثلاثة مصادر أخرى، وهي الإجماع والقياس وحديث الآحاد، وبدعم من السلطة السياسية اعتمدت هذه المصادر، وتم تهميش المدارس الأخرى، وأغلق باب الاجتهاد.

وصار التقليد المذهبي السبيل الوحيد لتدين المرء، غير أن الفوضى التي شهدتها الساحة الدينية في رواية حديث الآحاد من بعد القرن الثالث الهجري، دفعت الأصوليين من مدرسة الحديث للعودة إلى مقولات مدرسة الاجتهاد والرأي، وهي التي حصرت استخدام حديث الآحاد في القضايا التي ينبني عليها عمل، ورفضت استخدامه في بناء العقائد والتصورات والقواعد الكلية، وفي الإخبار عن عالم الغيب، أو في الإنباء عن التاريخ والمستقبل، كما رفضت كل ما جاء منه معارضاً للقرآن عموماً، ورفضت كل ما خالف الذاكرة الجمعية، أو عمل أهل المدينة، ورفضت كل حديث يشكل تطبيقه حرجاً على الناس، أي ما تعم به البلوى، وانتقدت المعايير الازدواجية التي يحكم بها على من تقبل روايته ومن لا تقبل، وانتقدت التوسع في مفهوم الصحابة والتابعين وتابع التابعين، كما انتقدت مبدأ العصمة التي احيطت بها رواية الصحابي، كل ذلك تم خلال التاريخ.

• ولكن الأمة متفقة على أن ما في «البخاري ومسلم» صحيح، فهل أنت تستثنيهما من ذلك؟

- هذا سؤال حساس، يطرح في زمن كثر فيه الهجوم على الإسلام وثقافته، ولهذا ينبري كثير من العلماء والفقهاء المعاصرين لأي تشكيك في صحة البخاري ومسلم، لا بسبب إيمانهم بعصمة الكتابين من الخطأ، إنما بسبب النوايا الكامنة وراء التشكيك، غير أن مقولة الأمة متفقة على ذلك هي مقولة ديماغوجية، تهدف لتحريض العامة من المسلمين ضد أي تناول ضد الصحيحين، إذ إن البخاري ومسلم كتبا كتابيهما في القرن الثالث الهجري، في زمن الدولة العباسية الثانية، التي هيمن عليها الأعاجم، وهو زمن توقف فيه الاجتهاد والتفكير، ولذلك صار التدين بالتقليد، وانحصر الاجتهاد في نطاق التقليد، ونشأت مؤسسات مذهبية ذات متحد علمي، مهمتها الحفاظ على التقليد، وتجريم أي اجتهاد خارج التقليد.

وعلى هذا، أي اتفاق للأمة في ظل التقليد لا يسمى إجماعاً، ورغم هذه الظروف، فإن كتابي البخاري ومسلم تعرضا لنقد بعض المحدثين المعتبرين نتيجة المساحة الممنوحة للاجتهاد في ظل التقليد، منهم الدارقطني والترمذي وأبو زرعة وأبوحاتم الرازي وغيرهم عدد كبير، أما عملية تقديس الكتابين التي نراها اليوم فقد تم تكريسها في عصر السلاجقة، ومعظم الذين يهيجون الرأي العام ضد المطالبين بمراجعة أحاديث البخاري هم، إما علماء متشككون من النوايا وراء هذه المطالبة، أو من جمهور الوعظ الديني العام، بدليل أننا لم نشهد اعتراضاً إعلامياً صاخباً ضد الشيخ ناصر الدين الألباني الذي ضعف مجموعة أحاديث من البخاري ومسلم، رغم أن الألباني لا ينتمي إلى تقاليد المتحد العلمي الإسلامي، فهو لم يتخرج من حلقات العلم الديني أو معاهده.

• وهل ناقشت ذلك في كتابك؟

- لا، لم أناقشه... الكتاب يسعى لتكوين صورة للثقافة في المنطقة عموماً، ويتتبع تاريخ الأفكار وتطورها، خصوصاً في الإسلام.

• وكأنك تتفق مع ما ذكره ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في لقائه الأخير حول حديث الآحاد، عندما قال إن المملكة ملتزمة بالقرآن والسنة المتواترة، وليس بالضرورة تلتزم بحديث الآحاد؟

- كلام ولي العهد السعودي كان مقتضباً، ولا أدري إن كان كلامي يتفق مع مقصده أم لا؟ وعلى العموم، شرعت في كتابة كتابي قبل أن يتولى ولي العهد السعودي منصبه، وفي كتابي تطرقت بالتفصيل لتاريخ ظهور منظومة حديث الآحاد، وتتبعت نشأتها الأولى، وسلطت على دور السلطة السياسية في تشجيع ظهورها، كما ناقشت الإشكاليات المصاحبة لظهورها، ستجد تفاصيل دقيقة في الكتاب حول هذا الموضوع.

• بعد رحلتك الطويلة مع ثقافة أهل المنطقة، هل تراها قادرة على تقديم حلول لمشاكل البشرية والعالم؟

- الإنسان في هذه المنطقة كان صاحب رسالة منذ أول تواجده عليها، ورسالته هي بناء علاقة متوازنة مع الله والكون والحياة، هذه العلاقة تكفل له أداء وظيفته بشكل صحيح، ووظيفته إعمار الأرض ونشر المدنية، في مواجهة البهيمية والتوحش، هذا ما تعكسه اللقى والآثار القديمة، وتعكسه ديانات المنطقة، وما يعكسه التاريخ المدون، وإذا كان القرآن هو آخر الكتب السماوية في هذه المنطقة، فإنه شديد الوضوح في رسالته هذه، خصوصاً إذا ما جردناه من الإضافات التي طرأت عليه نتيجة التفاسير والإسرائيليات.

ورسالة الإسلام هي الكفيلة بإنقاذ البشرية مما هي فيه، الإسلام لن يضيف الكثير لمنجزات الحضارة المعاصرة، تلك التي فتحت أبواب الفضاء، وقصرت المسافات، وصنعت الثورة الخضراء، وضاعفت انتاج المحاصيل، وخففت آلام المرضى، وتحكمت بالطاقة، فأنارت الظلام وكيفت الحر والبرد، الإسلام يستطيع إعادة تنظيم العلاقة بين الإنسان مع ربه وكونه والحياة فيه، ذلك أن الحضارة المعاصرة تقوم على تصورات مدمرة للإنسان والحياة والبيئة، تقوم على مبدأ ندرة الثروة، ومبدأ الصراع على حيازتها، ومبدأ إفناء البعض ليعيش البعض، ولذلك هي منحازة للرجل الغربي الأبيض ضد بقية سكان الأرض، فتمنحه الحياة الأفضل على حساب الأمم الضعيفة.

ولما كانت القوة هي سبب الرفاه، صار هناك هوس هستيري في حيازة القوة، وصار استنزاف ثروات الكون سمة من سمات حيازة القوة، واستهلاكها مؤشراً للنمو، وأدى ذلك لاختلال في توازنات الطبيعة، في الحرارة والغلاف الجوي والهواء والغابات والأراضي الزراعية، واختلال في الإنفاق على مشاريع السلم والحرب، واختلال في العلم والتكنولوجيا، واختلال في سباق التسلح، جعل عالمنا كله معبأ بأسلحة الدمار الشامل والأوبئة البيولوجية الفتاكة، لم يشهد تاريخ البشرية قط حضارة وضعت الحياة برمتها تحت تهديد الإبادة والدمار الشامل كما تفعل الحضارة المعاصرة، ولم يشهد تاريخ البشرية قط حضارة تسعى لإعادة الإنسان إلى بهيميته، بلا قيم ولا منظومة أخلاقية مستقرة ولا ضمير، لذلك فإن المخزون الثقافي للمنطقة يملك تصورات متزنة ونزعة إنسانية بالغة الرقي، وهذا المخزون هو القادر أن يعيد البشرية إلى رشدها.

• سؤال أخير خارج الموضوع، لماذا ابتعدت عن الساحة السياسية؟

- لم أبتعد عن الساحة السياسية، فأنا مازلت نشطاً في المحافل السياسية خارج النطاق المحلي، ولي حضور بارز في دعم القضايا التي تهم العرب والمسلمين، لكنني على المستوى المحلي أردد قول القائل: تغيّرت الأرض ومَن عليها... فلا الأرض أرضي ولا الناس ناسي.