أما وقد انتهتْ «التفاعلاتُ الإعلامية» التي أحْدَثَتْها في بيروت المبادرةُ الفرنسية - السعودية في ضوء مبالغاتٍ في قراءة «الفرصة الأخيرة» التي منحتْها الرياض للبنان لمعالجة «أصل» الأزمة معها ودول الخليج العربي الأخرى، فإن الجوانب السياسية لـ «بروتوكول جدّة» باتت هي الطاغية على المشهد الداخلي في ضوء ما رتّبه من رميٍ للكرة في ملعب لبنان الرسمي بوصْفه مسؤولاً عن تنفيذ موجباته الإصلاحية والسيادية وتالياً معاودة الانتظام تحت الشرعيتين العربية والدولية.

وفي حين بقي «حزب الله» على صمته حيال «تعويم» المعادلة الثلاثية الدولية المرتكزة على القرارات 1559 و1680 و1701 مع اعتبار التزامها وتطبيقها حجر زاويةٍ في رفْد «بلاد الأرز» برافعةٍ سعودية لمسار الإنقاذ جنباً إلى جنب مع ضرورة إنهاء جعْل لبنان «منطلقاً لأيّ أعمال ارهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات» وإنجاز الإصلاحات التقنية، فإن أوّل إشاراتٍ من الأجواء القريبة من الحزب وإعلامٍ محسوب عليه، حَمَلَتْ مناخاتٍ غير مفاجئة تعاطت مع ما صدر عن لقاء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على أنه إعادة للبلاد إلى مرحلة 2005 وما شهدتْه من انقسامات لبنانية حادة حول الـ 1559 مع إقرارٍ بأن سيد الاليزيه «وافق ‏على الشروط السعودية في ما يتعلق بلبنان».

وتأتي هذه الإشارات لتؤكد المؤكد حيال أن «ترسيم الحدود» - بالسياسة والإصلاح - لأي مسارِ دعمٍ مالي للحكومة اللبنانية والذي خلصت إليه محادثات جدّة سيصطدم مجدداً بمسألتين:

• الأولى أن «حزب الله»، الذي لا يعتبر أنه في وضعية تراجعية تضطره لتقديم أي تنازلاتٍ تتصل بوضعيته العسكرية وبسلاحه وأدواره خارج الحدود، لن يكون في وارد التفريط بمكتسبات راكمها على مدار 16 عاماً في الواقع اللبناني لا سيما بعدما بات «يحميها بالنظام»، أي بقوة إمساكه بالغالبية النيابية وبمختلف مفاصل القرار، وهو الذي يقارب الوضع في «بلاد الأرز» كحلقة في قوس النفوذ الإيراني وبما يتلاءم مع مقتضيات اللحظة الاقليمية المحكومة حالياً بمفاوضات النووي و«مَلاحقها» المحتملة.

• والثاني أن لبنان الرسمي الذي تلقّف بارتياح الاتصال الثلاثي ولو الخاطف الذي جَمَعَ ماكرون والأمير محمد بن سلمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بات أمام امتحانِ «رغبته» كما قدرته على الوفاء بمندرجات خريطة الطريق الفرنسية - السعودية، وسط ربط رئيس الجمهورية ميشال عون وفق مواقف عبّر عنها في تصريحات على هامش زيارته الأخيرة لقطر، أي مقاربات لمسألة «حزب الله» بخطر «الحرب الأهلية».

في المقابل،يبدو ميقاتي عاجزاً عما هو أبعد من «إعلان النيات» وتقديم التزاماتٍ لا يملك أحد مفتاح فرْضها، في ظلّ تذكير دوائر سياسية بأن رئيس الوزراء يقبع منذ 12 اكتوبر الماضي في ما يشبه «الإقامة الجبرية» السياسية، وممنوعٌّ عليه جمْع حكومته المطلوب منها القيام بالإصلاحات، بعدما شُلَّت بقرارٍ من الحليف الأقوى لإيران، أي «حزب الله» الذي أعلنها حرباً ضدّ التحقيق في انفجار مرفأ بيروت وكبير المحققين في الجريمة القاضي طارق بيطار.

ولم تقرأ الدوائر مسارعةَ ميقاتي أمس لترؤس «مجلس وزاري مصغّر» تحت عنوان متابعة موضوع الاجراءات الحدودية وحل الإشكالات التي حصلت مع السعودية ودول الخليج العربي، إلا كمحاولة لتوجيه رسالة إلى الرياض بأنه يحاول القيام بشيء ما يعكس أن بيروت تأخذ بجدية «دفتر الشروط» السعودي علّ المملكة تبادر أقله الى إعادة سفيرها الى بيروت وتنهي وقف التبادل التجاري، وسط ملاحظة أن لبنان الرسمي يحاول قصْر التعاطي مع موضوع التهريب والحدود بملف المخدرات من دون السلاح، في مؤشِّر إلى «الهوامش المعدومة» أمامه في هذه القضية.

وبعد الاجتماع الذي شارك فيه رئيس الهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية الصناعيين ورئيس جمعية تجار بيروت واتحاد مجالس رجال الأعمال اللبنانية – الخليجية، أعلن وزير الداخلية بسام مولوي «ان المطلوب منا اتخاذ إجراءات سريعة وعملية تثبت بأن الحكومة تقوم بواجباتها بضبط الحدود، والمطار والمرفأ وكل المعابر. ويجب أن نصل الى نتيجة للحد من التهريب الحاصل عبر لبنان، وقد أكدتُ أن هناك أكثر من عملية ستُكشف قريباً، وهناك عملية تهريب كبتاغون كُشفت بالأمس وتتم متابعتها وتم توقيف المعنيين بها، وسنتابع القيام بالإجراءات، وسنعطي أجوبة عملية لما يحصل من تهريب، وما يمكن أن يهدد علاقتنا بالسعودية ودول الخليج. سنقوم بواجباتنا على أكمل وجه ولا نريد أن يُقال إن هناك مشكلة تتعلق بالتصدير وبالتهريب عبر لبنان، وأن الدولة لم تتخذ أي إجراء عملي».

ورداً على سؤال عن شرط حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية أجاب: «الحكومة ملتزمة ومتضامنة والقرارات التي تتخذ فيها وما يعلنه دولة الرئيس ننفذه. وكل الأمور التي تلتزمها الدولة والحكومة اللبنانية سياسياً ننفذها على الأرض».

وكان ميقاتي وضع رئيس الجمهورية في تفاصيل الاتصال الذي تلقاه السبت من الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي والنقاط التي تم البحث فيها وذلك قبيل حضورهما توقيع اتفاقية «افتتاح المكتب الاقليمي للمنظمة الدولية للفرنكوفونية لمنطقة الشرق الاوسط في بيروت»، بين وزير الخارجية عبدالله بوحبيب ومدير المنظمة الدولية للفرنكوفونية Geoffroi Montpetit.

وفي حين عكست تسريبات متقاطعة حول أن عون ينتظر اتصالاً من ماكرون حول حصيلة لقاء جدة، تَحَسُّساً رئاسياً حيال تغييب الرئاسة الأولى حتى الساعة عن هذا المسار، برزت تغريدة للسفير السعودي لدى بيروت وليد بخاري كتب فيها: «الحَذْفُ من أساليبِ البَلاغَةِ ومن فعَاليَّتهِ أنَّه يدفعُ الذِّهْنَ للبحثِ عن المحذُوفِ.. مع بقاءِ القرائنِ الدَّالةِ عليه..!»

الحكومة باقية «في الأسر»

وفي موازاة ذلك، بدت عقدة تعطيل جلسات مجلس الوزراء وكأنها تدور في مكانها وسط استبعادٍ كامل لبلوغ أي تفاهم على حلّ قضية بيطار هذا الأسبوع، بل على العكس برزت مؤشراتٌ إلى أن هذا الملف دَخَلَ على وهج الأبعاد الشاملة لـ «التفاهمات» الفرنسية - السعودية منعطفاتٍ جديدةً قد تحمل موجات تشدُّد إضافية تتقاطع مع الاشتباك الداخلي حول مصير المحقق العدلي في «بيروتشيما» وآليات كف يده بالكامل أو تجزئة التحقيق بين شق يتولاه المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وآخَر يبقى مع بيطار على أن يُحصر دوره بملاحقة غير السياسيين.

ولم يكن عابراً أمس، ملامح معاودة الثنائي الشيعي رمي ملف بيطار بين أحضان الحكومة التي يرفض عون وميقاتي جرّها إلى هذا «اللغم»، بعد ما بدا تسليماً بأن لا حل ممكناً إلا عبر البرلمان، وهو ما كانت المحاولات تجري على تخومه في الأيام الماضية، وسط مناخاتٍ عن مساعٍ لنسج صفقة وتبادُل «هدايا» بين الثنائي ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل على قاعدة «نزع أنياب» بيطار مقابل معاودة اعتماد اقتراع المغتربين للـ 128 نائباً (عوض 6 يضافون الى عدد النواب الحاليين) وتالياً الإفراج عن جلسات الحكومة، قبل أن يصطدم الأمر برفْض باسيل إعطاء ضمانات بتصويت تكتله لمصلحة تكريس دور «الأعلى للمحاكمة» في ملاحقة رئيس الحكومة السابق حسان دياب و4 وزراء سابقين.

وفي هذا السياق،برز أمس تأكيد بري عشية الجلسة التشريعية للبرلمان اليوم، التي لن تبحث في قضية بيطار «أن لا ‏مقايضة ولا صفقة فيها»، معتبراً «انّ ما يُروّج ‏أحياناً عن انّ هناك تسوية او مساومة يجري تحضيرها بين الملفات ‏العالقة، هو انعكاس لخفة البعض ولا صلة له بالواقع»، في موازاة ما نُقل عن مصادر نيابية «بارزة» من أن «الحل ‏كان ولا يزال مرجعيته القضاء ومجلس الوزراء».

وفي الإطار، لفت نائب «حزب الله» حسن فضل الله إلى «أن الأسباب التي أدت إلى عدم اجتماع الحكومة معروفة، وهي المشكلة المرتبطة بالمحقق في انفجار المرفأ، ونريد لهذه الحكومة أن تفكك كل الألغام من طريقها، ولكن عليها أن تذهب لمعالجة أسباب عدم اجتماعها، ونحن لسنا مع التعطيل، وهو ليس من جهتنا، فسببه الاعتداء على الدستور والقوانين (...) ولا يمكن للحكومة أن تقول إنه ليس لها علاقة بهذا الأمر».

جنبلاط والتمديد لعون

وعلى وقع هذه الأجواء، مضى رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط في رفْع السقف السياسي بوجه «حزب الله»، لافتاً الى أن «الطائف تضمّن بنداً لإلغاء الطائفية السياسية لكنه لم يُنفّذ، واليوم أكثر من أي وقت ندخل في لبنان آخر، حيث يُصادر القرار اللبناني من قبل حزب يمتد من هنا إلى الجمهورية الإسلامية، وفي الوقت نفسه هناك الأزمة الاقتصادية».

وإذ أكّد جنبلاط في حديثٍ لـ «الأنباء» الإلكترونية أنه «إذا منحت مبادرة الرئيس الفرنسي إمكانية انعقاد الحكومة من أجل القيام بالإصلاحات البديهية وإقرار البطاقة التمويلية تكون معجزة»، رأى أن «استعادة لبنان من المحور الايراني يحتاج إلى ظروف دولية تسمح للبلد بأن يكون موجوداً».

ولفت إلى أن «دستورياً، لا يمكن لرئيس الجمهورية ميشال عون التمديد، وهذا الأمر مخالف للدستور ويجب أن يسلّم».