لم يكن ينقص الواقعَ اللبناني القابع في قعر الانهيار المروّع، إلا أن تهبّ «رياح» الاستحقاقات الانتخابية، النيابية والرئاسية، التي تطبع سنة 2022 لترسم معالم انزلاقاتٍ جديدة نحو مشهدياتٍ أشدّ قتامة، بفعل تحريك «فوالق» سياسية - طائفية بـ «أسلحة الاحتياط» التي تؤشر إلى ما يبدو «معارك وجود» متعددة البُعد يخوضها أطراف وازنون في صناديق الاقتراع سواء تحت عنوان تثبيت مكاسب تمّت مراكمتها في الأعوام الـ 15 الماضية على صعيد كسْر التوازنات الداخلية وتوسيع دائرتها، أو تحت شعار «التصدّي لمحاولة انقلاب خارجية» على الوقائع المحلية بامتداداتها الإقليمية.
وفيما كانت بيروت مأخوذةً بالمساعي المستعصية حتى الساعة لإخراج مجلس الوزراء من دائرة التعطيل بفعل عدم التفاهم على تسوية في ما خص «الحرب» المعلَنة من «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري على المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، وفي موازاة استمرار الأزمة مع دول الخليج العربي «مكانك راوح» وسط استكانة لبنان الرسمي إلى «لا شيء» قام به لمعالجتها و«اختبائه» وراء وساطات خارجية يدرك أنها لن تحتوي «الانفجار الديبلوماسي»، باغتت المشهدَ الداخلي مناخاتٌ محمومة بدا من الصعب قراءتها خارج كونها «تدشين» للحملات الانتخابية في الطريق إلى الاستحقاق النيابي (ربيع 2022) بخطابٍ تصدَّره أمس رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل واعتُبرت مضامينه مدجَّجة بـ «اعترافاتٍ» ذات مفعول رجعي وانطوت في الوقت نفسه على «ربْط نزاعٍ» مع المرحلة المقبلة.
واستوقف أوساطاً سياسية «الإقرارِ» الضمني لباسيل، وهو صهر الرئيس ميشال عون والرجل الأقوى في عهد، بأن فريقه لم يمانع حصول الانهيار «الذي لم يكن ينقص إلا إعلانه» وذلك كمدخلٍ لـ «تفكيك المنظومة (السياسية - المالية) وهذا ما لم يكن أحدٌ آخَر قادراً على القيام به»، ومتباهياً بما فُسِّر على أنه إعلان «إجهاز سياسي» على زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري مع غمْز في السياق نفسه من قناة رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط.
فباسيل وبعدما أعلن في خطاب لم يوفّر فيه حزب «القوات اللبنانية» من دون تسميته «اليوم يريدون إقناعكم أن هناك احتلالاً جديداً جاء الى لبنان هو الاحتلال الايراني لكن نحن كتيار وطني حر كما واجهنا الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية... إذا كان هناك احتلال ايراني نحن أول من سنواجهه عندما سيركع أمامه الآخرون»، أشار إلى أن «هذا العهد لم يأت الى بلد فيه كهرباء وخال من الديون بل أتى الى بلد مفلس لم يكن ينقص الا اعلان انهياره وكان كلما تأخر الانهيار زاد الدين والكلفة على الناس».
وأضاف: «المسؤول عن الانهيار هو من جعل الفوائد بسندات الخزينة منذ اوائل التسعينات 42 في المئة ومن ثبت سعر الصرف (...) وما قام به هذا العهد ولو على حسابه وحسابنا هو أنه لم يقبل بأن يمر الوقت بل واجه السياسة المالية الخاطئة وفكك المنظومة وهذا الأهم وهو ما لم يكن أحد آخَر قادراً على القيام به».
وشدد على أن «المنظومة السياسية التي حكمت لبنان منذ التسعينات نتحرر منها اليوم وهي تتفكك وهم يسقطون واحداً تلو الآخر، لكن بقيت المنظومة المالية وعلى رأسها اليوم الحاكم (رياض سلامة) الذي سمته (مجلة) باري ماتش (الفرنسية) - ساحر المال - في لبنان... السحر انتهى وكذبة تثبيت سعر الصرف انتهت ولا سحر يمكن أن يقوموا به بعد اليوم».
وتابع: «محاولة تركيعنا لن تمر، وسنحرر اقتصاد لبنان وهذا هو الهدف والمعركة قبل الانتخابات وخلالها وبعدها وتذكّروا جيداً أننا مَن حررنا لبنان من كل محتل ووصي وسنحرره منهم ومن سياساتهم (...) والحاكم لا يستطيع البقاء قي موقعه ونستعيد الثقة بالليرة فعليه ملاحقات قضائية بسبع دول بأوروبا ولا يكفي ان تثبته الدولة الكبرى ليثبت، فلو أن أميركا وراءه نريد ان نُسْقِطه ولو أن المنظومة السياسية وراءه يجب أن تسقط ويسقط معها».
وإذ كان «حزب الله» عبر رئيس كتلة نوابه محمد رعد «يثبّت» سقف مقاربته الانتخابات النيابية، التي يتعاطى معها على أنها ستحصل، مكرراً أنّ «لبنان لا يُحكم بمنطق الأكثرية بل بالدستور ووحدة شعبه ووحدته الوطنية»، فإن الأوساطَ السياسية حذّرت من «شحذ السكاكين» ربْطاً بالانتخابات فيما البلاد أشبه بـ «طنجرة ضغط» في واقعها المعيشي الذي يشي بمزيد من الانهيارات لليرة أمام الدولار، وسط مخاوف قديمة - جديدة من أن يتحوّل الشارع الذي زخر أمس بدعوات في أكثر من منطقة لتحركات احتجاجية اليوم على الوضع المأسوي مسرحاً لتصفية حساباتٍ ذات صلة بالمعارك السياسية - الانتخابية خصوصاً في ضوء تشابُك هذه المعارك وجبهاتها «داخل البيت الحكومي» ومكوّناته، وبين بعض هذه المكوّنات وخصومها في ما كان يُعرف بقوى «14 مارس».
وتأتي كل هذه الاحتقانات بما تثيره من خشية من دخول البلاد «الفوضى الشاملة»، لتضع الاستحقاق النيابي في دائرة الخطر المتأتي أيضاً من الإمعان في تعطيل جلسات الحكومة التي تحتاج لاتخاذ سلسلة قرارات ذات صلة بانتخابات الربيع وبعضها يرتبط بمهل زمنية، وسط أجواء أمس أفادت أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عاد إلى «التريّث» في ما كان توعَّد به لجهة تحديد موعد لجلسة لمجلس الوزراء «وليتحمّل كل طرف مسؤوليته» رافضاً، وبتأييد من عون، زجّ الحكومة في قضية بيطار التي «دُفعت» إلى مَخْرج وحيد عبر البرلمان ما زال بعيد المنال.
ونقلت أوساط ميقاتي (عبر موقع لبنان 24) أن تريثه يأتي تجاوباً مع الاتصالات والمساعي التي نشطت لمعالجة الاسباب التي أدت إلى تعطيل جلسات الحكومة، ولحرصه على عدم زيادة التشرذم والتأزم، وأنه مستمر بتحمل مسؤولياته ويعطي الاتصالات مهلة محددة «قبل أن يحسم خياره في الدعوة الى عقد الجلسة على قاعدة عدم جواز استمرار التعطيل وليتحمّل كل طرف مسؤولية أعماله»، كاشفة أن رئيس الحكومة أجرى «من الفاتيكان حيث قابل البابا فرنسيس سلسلة اتصالات دفعتْه الى تأخير قراره بالدعوة الى جلسة لمجلس الوزراء، لكنه بدا أكثر إصراراً على استعجال الحل قبل حسم خياراته، الأمر الذي بات واضحاً للجميع».
وفي موازاة ذلك، حذّر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من «أي محاولة لإرجاء الانتخاباتِ تحتَ ذرائعَ غير منطقيّة وغير وطنية، ونصر على حصولها في مواعيدها الدستوريّة، حرصاً على حقّ الشعب في الانتخاب والتغيير، وحفاظاً على سلامة لبنان ووِحدته»، مشيداً «بقرار الهيئة العامّة بالإجماعِ لمحكمة التمييز الذي ثبّت أحقيّة التحقيقِ العدليّ، فأعاد للقضاء اللبناني جديته وهيبته ووحدته، وأحيا الأمل باستكمال التحقيق في جريمة المرفأ بعيداً عن التسييس والتطييف والمصالح».
وأضاف «حريُّ بالجميع، مسؤولين وسياسيّين وإعلاميّين، أن يحترموا السلطة القضائية ويكفوا عن الإساءة المتعمدة إليها في إطارِ ضرب جميع ركائز النظام اللبناني، الواحد تلو الآخر».
وتساءل الراعي «بأي حق يُمنع مجلس الوزراء من الانعقاد؟ هل ينتظر المعطّلون مزيداً من الانهيار ومن سقوط الليرة؟ مزيداً من تدهور علاقاتِ لبنان مع دول الخليج؟ لا يجوز لمجلس الوزراء أن يبقى مغيباً ورهينة هذا أو ذاك، فيما هو أساساً السلطة المعنيّة بإنقاذ لبنان».