لا صوت يعلو فوق صوت الانهيار التاريخي لليرة! هكذا بدا المشهد في لبنان الذي يتلقى، تحت جنْح تعطيل حكومته و«قص أجنحة» علاقاته الخليجية، الانسحاقَ المتدحرج للعملة الوطنية أمام الدولار الذي سجّل أمس مستوى قياسياً منذ «هبوب العاصفة الكاملة» في 2020 لامس معه عتبة 25 ألف ليرة وسط مخاوف من ارتفاعاتٍ بلا سقوف في ظلّ تفاقُم وضعية «الدولة الزومبي» في المال والسياسة وخروج الانهيار الشامل عن سيطرة السلطات في بيروت.
وعلى أهمية زيارة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي للفاتيكان أمس والرصد المستمر لمفاعيل «جرعة التفاؤل الزائفة» بإمكان فك أسْر الحكومة المكبّلة بأزمتيْ المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار وخطيئة وزير الإعلام جورج قرداحي بتصريحاته العدائية ضدّ السعودية والإمارات، فإن «صهيل رياح» الانفجار الاجتماعي حجب كل العصف السياسي بعدما صدح «صليلُ» الارتفاعات المتلاحقة لسعر صرف الدولار و«صريرُ» المذعورين والجائعين في وطنٍ وُضع على الطريق السريع لبؤسٍ جَماعي يُخشى ألا يَخرج منه إلا صريعاً.
وحتى مع «افتراس» الأخضر «الكاسر» للعملة الوطنية، لم تَظْهر في بيروت مؤشراتٌ إلى أن دخول البلاد شهر الأعياد على وقع الانهيار «الوحشي» سيبدّل أقله في المدى المنظور حرفاً في مسار المأزق الحكومي، وسط كلمتيْن اختصرت بهما مصادر واسعة الاطلاع واقع الحال لـ «الراي» وهما: «بيطار أولا» في إشارةٍ إلى إصرار «حزب الله» حتى الساعة على تنحية المحقق العدلي في «بيروتشيما» كمدخل لاستنئاف جلسات الحكومة المعلّقة منذ 12 أكتوبر الماضي.
ولم يكن عابراً أمس تفاقُم هذه العقدة مع انسداد محاولات تطويق المحقق العدلي قضائياً في ضوء قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز بردّ كل دعاوى مخاصمة الدولة التي تَقَدَّمَ بها المدعى عليهم الرئيس السابق للحكومة حسان دياب والوزراء السابقون نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل وإعلانها «الأمر لي» في النظر بطلبات ردّ بيطار، وسط انطباعٍ بأن هذه القضية تحوّلت أيضاً «خطاً أمامياً» يختبئ وراءه التلكؤ المتمادي عن فتْح كوة في جدار أعتى أزمة تضرب علاقات لبنان مع دول الخليج العربي وذلك عبر استقالة قرداحي.
وفيما بقيت بيروت «مخدَّرة» بإبرة انتظارٍ جديدٍ لِما بعد إتمام رئيس الجمهورية ميشال عون زيارته لقطر التي يبدأها الاثنين حيث سيشارك بافتتاح «كأس العرب - فيفا 2021» على أن يلتقي أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وسط رصْدٍ لكيفية إدارة ميقاتي وعده بالدعوة لجلسة حكومية ما زالت محاصَرة بـ «خطوط التماس» التقابُلية، فإن «جملتيْن» بارزتين اختصرتا محادثات رئيس الحكومة في الفاتيكان ولم تُستشفا من «بين السطور» بل جاءتا «فوق السطوح» ورمتا ضمناً كرة تصحيح العلاقة مع دول الخليج والعالم العربي في ملعب لبنان وحكومته التي طالبها الفاتيكان بالوفاء بالتزاماتها تجاه المجتمع الدولي واعتماد الخيارات الوطنية التي تلقى إجماعاً.
فالبابا دعا الى «تعاون جميع اللبنانيين لإنقاذ وطنهم، وطن الرسالة»، والى «أن يستعيد لبنان دوره كنموذج للحوار والتلاقي بين الشرق والغرب»، مؤكداً «هموم لبنان كثيرة وأنا سأحمله في صلاتي من أجل أن يخلصه الله من كل الأزمات»، قبل أن ينقل عنه ميقاتي «أن قداسة البابا أكد أهمية استمرار الدور الذي يقوم به اللبنانيون وتفاعلهم مع محيطهم العربي، ما يُبْقي لبنان بلداً ريادياً وذا فرادة.
وأكد أنه سيبذل كل جهده في المحافل الدولية لمساعدة لبنان على عبور المرحلة الصعبة، كما سمعتُ تشجيعاً بابوياً على المحافظة على الاستقرار في لبنان وعلى الاستمرار بالتزام الخيارات الوطنية التي يجمع عليها اللبنانيون، فضلاً عن تعزيز العلاقات بين لبنان والعالم».
أما أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بياترو باروليني، فأكد «أن صدقية أي حكومة أن تؤمن التزامات البلد خصوصاً مع المجتمع الدولي»، لافتاً إلى «أن لبنان يحظى باهتمامٍ خاص من الكرسي الرسولي، والفاتيكان سيبذل جهوداً لدعمه في المحافل الدولية»، ومشدداً على «ضرورة أن يكون لبنان على أفضل العلاقات مع محيطه العربي والمجتمع الدولي».
وكان ميقاتي وصل إلى الفاتيكان يرافقه أفراد عائلته. وبعد مراسم الاستقبال الرسمية، استقبله البابا في مكتبه وعقد معه خلوة استمرت نصف ساعة.
وخلال اللقاء، قال ميقاتي «إننا في هذه الأوقات الصعبة التي يمر بها لبنان في أمسّ الحاجة الى الصلاة ليقي الله وطننا الويلات والشرور، كما أننا في أمسّ الحاجة لدعم الأصدقاء على كل الصعد، خصوصاً الاقتصادية والاجتماعية».
وأضاف: «كان المسيحيون في الشرق من دعائم الحريات وحقوق الإنسان وحرية المعتقد، وقد وجدوا على الدوام الملاذ الآمن في لبنان، وبقدر ما يشعر المسيحيون في لبنان بالأمان بقدر ما ينعكس ذلك على جميع المسيحيين في الشرق. وأنا واثق بأن الكرسي الرسولي يمكنه القيام بدور كبير في هذا الاطار».
وبعد انتهاء الخلوة وتبادل الهدايا التذكارية بين البابا وميقاتي وعقيلته، أدلى رئيس الوزراء اللبناني بتصريح، قال فيه «نقلتُ إلى قداسة البابا محبة اللبنانيين الخاصة له من كل الطوائف وتقديرهم وامتنانهم على الاهتمام الذي يوليه لهم ولوطنهم. كذلك نقلتُ تحيات فخامة رئيس الجمهورية ميشال عون، وأكدت دعوة فخامته لقداسة البابا لزيارة لبنان قريباً».
وتابع «حملني البابا فرنسيس محبته الكبيرة الى اللبنانيين وتعاطفه معهم في هذه الظروف العصيبة التي يعيشونها، مجددا ثقته بأن اللبنانيين قادرون على تجاوز المحنة.
كذلك تناول البحث الأوضاع العامة في المنطقة والتطورات التي تحصل فيها، وكان هناك تأكيد متبادل على أهمية تفعيل العلاقات الإسلامية - المسيحية.
وثمّنتُ عالياً وثيقة الأخوة الإنسانية التي كان وقّعها قداسة البابا وسماحة شيخ الأزهر أحمد الطيب في اللقاء التاريخي الذي كانا عقداه في الإمارات العربية المتحدة عام 2019».
وأوضح ميقاتي أنه «طمأن البابا والمسؤولين في الكرسي الرسولي الذين التقيتهم أن لبنان سيبقى ملتقى للحضارات والثقافات المتعددة، وأن التعايش الإسلامي والمسيحي فيه قيمة كبرى يحرص اللبنانيون، إلى أي طائفة انتموا، على حمايتها وتعزيزها لأنها أثبتت أنها قادرة، رغم ما تعرّض له لبنان في تاريخه القديم والحديث، على إعادة إنتاج الصيغ التوافقية التي نهضت بلبنان من الكبوات التي مني بها.
وهذه القيمة باتت نموذجاً يحتذى لمعالجة ما تعرض له الوجود المسيحي من خضات في عدد من الدول العربية».
وأضاف «سمعت من المسؤولين في الكرسي الرسولي كلاماً مشجّعاً حول أهمية المحافظة على الوفاق الوطني بين اللبنانيين وضرورة توفير كل مقومات النجاح له، لأن به خلاص اللبنانيين وقدرتهم على المحافظة على وطنهم واحداً موحداً تسوده المحبة والتعاون بين كل مكوناته لتنمو أكثر فأكثر ثقافة الحوار والتسامح بين المسلمين والمسيحيين».
وأعلن «أن محادثاتي مع قداسة البابا والمسؤولين في الفاتيكان كانت فرصة لشرح توجهات الحكومة اللبنانية حيال التحديات التي تواجه لبنان، ويسعدني أن أشير إلى أنني لمستُ ارتياحاً بابوياً لما نقوم من جهد في المحافظة على الأمن والاستقرار في لبنان ومعالجة الصعوبات الهائلة التي يمر بها لبنان (...)».
وختم «خرجتُ من اللقاء مع البابا بارتياح تام خصوصا انه على اطلاع كامل على الأوضاع اللبنانية والظروف التي نعيشها، ويشدد على ضرورة تعاضد كل الارادات للحفاظ على الرسالة اللبنانية ووقف نزيف الهجرة الكبير من كل الطوائف اللبنانية، وهو يعمل على أن يكون للانسان في لبنان، كما في كل دول العالم، ما يحفظ حريته وكرامته واستقلاليته، وهي قيم لن يألو الفاتيكان جهداً في المحافظة عليها».
بعد ذلك، عقد ميقاتي اجتماعاً مع أمين سر دولة الفاتيكان الذي شدّد على «أن لبنان أساسي للوجود المسيحي في الشرق وهو كان على الدوام مثالاً للعالم حول كيفية تعايش المجتمعات مع بعضها البعض»، معرباً عن «قلقه من الوضع الاجتماعي في لبنان والأوضاع الاقتصادية التي يرزح اللبنانيون تحتها». ونوه «بشجاعة رئيس الحكومة في تحمل المسؤولية الصعبة رغم إدراكه المسبق بخطورتها».
وفي لبنان، البلد القائم على المحاصصة السياسية والطائفية، لم يبق القضاء بمنأى عن المحسوبيات، إذ تتدخل السياسة حتى في التعيينات خصوصاً في مجلس القضاء الأعلى، السلطة القضائية الأعلى.
وقال المصدر القضائي، إن القاضيات الثلاث قدمنّ استقالتهنّ الأربعاء «احتجاجاً على الوضع الصعب الذي بلغه القضاء والتدخلات السياسية في عمل السلطة القضائية والتشكيك في القرارات التي تصدر عن قضاة ومحاكم في معظم الملفات» لا سيما انفجار المرفأ.
وغرق التحقيق في انفجار المرفأ في متاهات السياسة ثم في فوضى قضائية.
منذ تسلمّه التحقيق قبل نحو عام، لاحقت 16 دعوى المحقق العدلي طارق بيطار، تمّ التقدّم بها أمام محاكم مختلفة، طالبت بكفّ يده ونقل القضية إلى قاض آخر، وأدت إلى تعليق التحقيق لمرات عدّة.
وتقدم بغالبية الدعاوى، مسؤولون مُدعى عليهم في القضية. وبعدما ردّت محاكم عدّة الدعاوى لأسباب مختلفة، وجد القضاة أنفسهم عرضة لدعاوى تقدم بها المسؤولون المدعى عليهم للتشكيك بصوابية قراراتهم.
وأوضح المصدر أن بين القاضيات الثلاث قاضية ردّت دعوى لتنحية بيطار، وتم التشكيك بصوابية قرارها.
وقال إن التشكيك المستمر في قرارات القضاء «بدأ يُفقد القضاء هيبته».
ورفض رئيس مجلس القضاء الأعلى، وفق المصدر، تسلم كتب الاستقالة أو تسجيلها، ووعد بمناقشة الموضوع في الاجتماع المقبل للمجلس.
وبيّن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت مدى ضعف الجسم القضائي في لبنان وقدرة السياسة على التدخل في عمله، ما لم يخدم توجهاتها.
ولا يتوقف الأمر عند ملف الانفجار، إذ جرى أيضاً تعليق التحقيق في قضية اختلاس أموال عامة وتهرب ضريبي تطاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعد دعوى تقدم بها وكيل أحد المصارف ضد المحامي العام التمييزي جان طنوس الذي ينظر في القضية.