بعرضيْن، عسكري رمزي بحضور رئاسي، ومدني «ثوري» بمشاركة مجموعات من انتفاضة «17 أكتوبر 2019»، احتفل لبنان أمس بالذكرى 78 لاستقلاله التي حلّت على وقع «زلزاليْن» واحد مالي يَمْضي منذ نحو عامين في «تدمير» مرتكزات هويّته ودوره الاقتصادي واستنزاف صمود شعبه المتروك لـ «موت بطيء»، وآخَر ديبلوماسي في علاقاته مع دول الخليج العربي ويقترب من دخول شهره الثاني بكلّ ما يحمله من أبعاد سياسية تتّصل بتموْضع «بلاد الأرز» الإقليمي كـ «متمّم استراتيجي» لقوس النفوذ الإيراني حتى المتوسط.

وإذا كان الاحتفال الرسمي الخجول أقيم في وزارة الدفاع في اليرزة جاء الأكثر اختصاراً في الوقت (لم يتجاوز نصف ساعة) كما في اقتصاره غير المسبوق على الوحدات الراجلة وغياب المؤلَّلة وهو ما رُبطٍ بانعكاسات الأزمة المالية على المؤسسة العسكرية، فإن «الاستقلال المدني» اكتسب رمزيةً في جغرافيته على جادة شارل حلو قبالة مرفأ بيروت الذي تمرّ عليه للمرة الثانية ذكرى 22 نوفمبر مثخناً بجراح تفجير 4 أغسطس 2020، الجريمة التي لم يجف دمها بعد، وأيضاً في كونه أعاد بعضاً من الروح لثورةٍ خفت وهجها ولكنها لم «تلفظ أنفاسها» بعد.

وفي حين شخصت الأنظار في احتفال «الدولة» على ما أعقبه من لقاء الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي في القصر الجمهوري في محاولةٍ لإخراج حكومة «معاً للإنقاذ» من الغيبوبة التي اُدخلت فيها على خلفية «إعلان الحرب» (من حزب الله وبري) على المحقق العدلي في «بيروتشيما» القاضي طارق بيطار ثم انفجار «خطيئة» وزير الإعلام جورج قرداحي بحق السعودية والإمارات بعلاقات لبنان مع الخليج العربي، فإن «احتفال الشعب» على مرمى المرفأ «الغافي» في أحضان ضحايا الانفجار الهيروشيمي طبعتْه ثلاثية «شعب، جيش، قضاء» التي رُفعت شعاراً للعرض الذي شارك فيه أكثر من 3 آلاف شخص قُسِّموا إلى نحو 50 «فوجاً» يمثّلون مختلف القطاعات المهنية والفنية وأهالي الضحايا والجرحى.

وشكّل «بيروتشيما» والتحقيقات فيه أحد بنود لقاء القصر الجمهوري الذي «كسر الجفاء» بين عون وبري بعد سجالات السقف العالي «وبالمباشر» على خط الرئيسين على خلفية تعطيل الثنائي الشيعي جلسات الحكومة حتى إيجاد مخرج لقضية بيطار، إلى جانب الأزمة التي تعتمل مع دول الخليج العربي والتي صارت بدورها من العناوين «المانعة» انعقاد مجلس الوزراء قبل استقالة قرداحي واجتراح «تخريجة» لها لا سبيل إليها ما لم يرفع «حزب الله» الحظر عن مثل هذه الخطوة التي تشكّل فاتحة كسْح ولو أول لغم في علاقات لبنان الرسمي مع الخليج الذي حدّد غالبية دوله خريطة طريق واضحة لمعاودة التطبيع مع بيروت ترتكز على الحدّ من تمكين الحزب في مفاصل القرار و«عودته إلى لبنان» من أدواره العسكرية والأمنية والمالية في العديد من دول «مجلس التعاون».

ولم يكن ممكناً أمس تَلَمُّس خلاصات واضحة من اجتماع القصر رغم الإيجابيات التي تم ضخّها، سواء بصورة الرؤساء ضاحكين معاً بعدما كانوا انتقلوا في سيارة واحدة من اليرزة الى بعبدا، أو قول بري لدى مغادرته رداً على اذا كانت هناك «حلحلة» ما «ان شاء الله خير»، قبل أن يؤكد ميقاتي «ان الاستقلال ذكرى مهمة في ذاتها، ولكن لنتذكر أن الذي أدى إليه هو وفاق اللبنانيين وتوافقهم في الميثاق الوطني، الذي حصل بين رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح».

وأضاف: «الاستقلال ما كان ليحصل لو لم يكن اللبنانيون متحدين. ونحن إذا لم نكن يدا واحدة، لن نتمكن بتاتا من الحفاظ على الاستقلال (...) إن التفاهم والحوار هما الأساس، والبعد جفاء، والجفاء يؤدي الى الشر. واللقاء كالذي حصل اليوم كان فيه الحوار جدياً، وبإذن الله سيؤدي الى الخير».

وكان عون أطل في رسالة الاستقال مساء الأحد على الواقع اللبناني المأزوم، متوقفاً عند «أن أربعين في المئة من عمر هذا العهد مرّت من دون حكومة، بعد تعثر عمليات التشكيل، جراء عقبات مصطنعة وصدامات سياسية»، ومتطرقاً إلى أزمة توقف الحكومة التي «اختلط فيها القضاء بالأمن بالسياسة»، ومعتبراً ان «المخرج من هذه الأزمة ليس بمستعصٍ، وقد أوجده لنا الدستور، وتحديداً في الفقرة «هـ» من مقدمته التي تنص على أن النظام اللبناني قائم على مبدأ الفصل بين السلطات، فهل نلتزم جميعنا سقف الدستور ونترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لتعود الحكومة الى ممارسة مهامها في هذه الظروف الضاغطة، أم سنسمح للخناق أن يشتد أكثر فأكثر على رقاب أهلنا وأبنائنا سواء في معيشتهم أو في أمنهم؟ وهل ندرك فعلاً مدى الأذى الذي يصيب مجتمعنا جراء تعطّل الحكومة؟ إن هذا الوضع يجب ألا يستمر».

وأضاف: «أزمة أخرى استجدت مع المملكة العربية السعودية وعدد من دول الخليج، أدت الى اهتزاز العلاقات بينها وبين لبنان، والى تداعيات سلبية على صعد عدة بما فيها الواقع الحكومي، وهنا أعود وأؤكد موقف لبنان الحريص على إقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية الشقيقة، لا سيما منها دول الخليج، انطلاقاً من ضرورة الفصل بين مواقف الدولة اللبنانية وبين ما يمكن أن يصدر عن أفراد وجماعات، خصوصاً أن مقتضيات النظام الديموقراطي في لبنان تضمن حرية الرأي والتعبير. وإني أتابع السعي لحل هذه الأزمة المستجدة، وآمل أن يكون الحل قريباً».

في موازاة ذلك، كانت الأزمة اللبنانية بتشعباتها كافة كما التحقيقات بانفجار المرفأ تحضر في موسكو حيث عُقد لقاء بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره اللبناني عبدالله بوحبيب.

وأكد لافروف خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع بوحبيب: «بناء على طلب الحكومة اللبنانية، قمنا اليوم بتسليم صور فضائية وصور للأقمار الاصطناعية أعدتها وكالة روسكوزموس. نأمل بأن تساعد هذه المواد في التحقيق في أسباب الانفجار في مرفأ بيروت».

وأضاف: «بحثنا الآفاق المحتملة لمشاركة جهات اقتصادية روسية في إصلاح البنية التحتية التي دمرت نتيجة الانفجار في المرفأ وهذا القرار لبناني»، كما تحدث عن مشروع تنجزه شركة روسية للنفط لايصال المحروقات الى ميناء بيروت.

وشدد على ثقته بقدرة رئيس الوزراء على بسط الاستقرار في لبنان، مشيرا الى أن «لا بدّ من حلّ المسائل الداخلية بالحوار وتعزيز التعاون».

من جانبه، قال بوحبيب: «نشكر روسيا على تسليمنا الصور الفضائية لمرفأ بيروت قبل الانفجار وبعده وسنسلمها بدورنا للقضاء ونأمل أن تساعد في كشف حقيقة هذه المأساة».

وعلى وقع هذه التطورات، استمرّ «حزب الله» في إطلاق إشارات «ارتيابٍ» ذات دلالات بالغة في ما خص الانتخابات النيابية المقبلة (ربيع 2022) التي تحوّلت محورية في خطابه وفي عملية «بناء» إعلامية - سياسية ممنْهجة ومتدحرجة.

فرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين، اعتبر أن «أهم أسباب المشكلات التي يعاني منها لبنان هي سياسات الولايات المتحدة لا سيما وأن البنوك بين يديها، والنظام الاقتصادي اللبناني هو نظام تابع لها، والمآسي التي حصلت طوال كل العقود الماضية كانت تحت نظر وإشراف السياسات الأميركية، ومع ذلك جاءت أميركا لتضغط من أجل أن تخنق اللبنانيين».

وشدد في إشارة بارزة تطل على ملف التفاوض غير المباشر مع اسرائيل حول الترسيم البحري على أن «الوفود الأميركية التي تأتي إلى لبنان تريد أن ترسم خطاً وهمياً للحل ليتبعه اللبنانيون، فيتخلون عن مواقع قوتهم، سواء في المقاومة، أو في النفط، أو في أي مستقبل اقتصادي ذاتي يمكن أن يبنيه لبنان»، وأضاف: «لو أن أميركا تريد فعلا أن تحل المشكلة في لبنان، فعليها أن تترك النفط اللبناني للبنانيين، وألا تعمل لمصلحة الإسرائيليين، وأن توقف ضغطها على مستوى العقوبات وغيرها».

ونصح «الذين يتبعون أميركا وسياساتها، وحتى من هم عبيد عندها وعند سفارتها، بأن يقللوا من الآمال الكاذبة»، معتبراً أن أميركا «لا تريد أن توجد حلاً في لبنان، فهم ينتظرون الانتخابات النيابية، فإذا كانت نتيجتها حسب رغبتهم، عندها يفكرون بنوع من فتح الأبواب المشروطة، وإذا لم يأخذوا النتيجة التي يرغبون بها في الانتخابات، فسيكون لهم موقف آخر».

وكان رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد أكد «اننا سنواصل مواجهتنا وصمودنا، وإذا كان هناك من يراهن على انزلاقة من هنا أو تزوير انتخابات من هناك أو استغلال فرصة ربما تُغَيّر المشهد، نقول إن هذا البلد رهن إرادة أبنائه فقط، وقد توافق أبناؤه على تسوية سياسية قوامها الديموقراطية التوافقية، فالذي يريد أن يحكمنا غدا بأكثرية مدعاة عليه أن يدرك أن الأكثرية التي حكمت لم تستطع أن تحكم».

أضاف: «لا تراهنوا على أكثرية عددية في الانتخابات، كانت من حظكم أو لم تكن، بل راهنوا على وحدة الموقف بين أبناء الوطن الواحد».

وتابع: «مَن يصر على أن يكون عبداً وتابعاً ورهينة لقرار يصله عبر الهاتف وليس من حكومة بل من سفارة بل من أصغر من سفارة ليرسم سياسته في هذا البلد، عليه أن يعيد حساباته. نحن منفتحون على كل تعاون وطني على أساس معيار السيادة الوطنية والحفاظ على الكرامة الوطنية، وكل المواقف نأخذها إنما أرضيتها تستند إلى هذا المفهوم».