... وقف رئيس البرلمان نبيه بري، في لحظة نادرة، إلى جانب الجنرال ميشال عون في جلسة انتخابه رئيساً للجمهورية، «مُشْرِفاً» على أدائه قَسَمَ اليمين بعد المرة الثالثة من عدّ الأصوات. أصلح بري لعون بعض العبارات في تلاوته القَسَم وكان يردّده بصوت خافت معه.
كان ذلك في 31 أكتوبر 2016 وكانت المرة الأولى التي يقف عون وبري جنباً إلى جنب من دون أن يشهرا سلاح خلافهما بـ«السلاح الأبيض» رغم أن رئيس البرلمان قادَ وفي الجلسة عيْنها معارضة «الأوراق البيض» لانتخاب عون، وهو الذي لم يكن شريكاً في التسوية التي أتت بالجنرال رئيساً للبلاد.
بدا مع «القَسَم» وكأن الرجلين ألقيا سلاحهما أمام الشاشات وعلى الملأ، وأن صفحة جديدة ربما فُتحت بين الرئيسين، حليفا «حزب الله» وركنا تحالف «8 مارس»، الموالي لسورية وإيران، بعدما أتعبتْهما، خصوصاً المواجهات «الثنائية» داخل الخندق الواحد منذ العام 2005.
ومنذ ذلك الحين (جلسة القَسَم)، و«حزب الله» الذي يخوض معارك على كل الجبهات العسكرية والسياسية في لبنان والخارج، يواجه معركة عون وبري من دون أن يكون طرفاً فيها، لا بل غالباً ما يضطر إلى تقديم تنازلات وتدوير زوايا من أجل إخمادها بأقلّ الأضرار الممكنة. فمنذ توقيع «ورقة التفاهم» في فبراير الـ 2006، بين الحزب و«التيار الوطني الحر» بزعامة عون آنذاك، وجد «حزب الله» نفسه عالقاً بين طرفين، يحاول من خلالها «التيار الحر» الدخول بقوة إلى قلب «الثنائية الشيعية»، على اعتبار انه أصبح يمون على الحزب في القفز فوق اعتبارات الواقع الشيعي، كرمى لحليفه المسيحي.
لكن منذ اللحظة الأولى لظهور الخلاف بين «التيار» وحركة «أمل» (بزعامة بري) في 2005، تحول الحزب وسيطاً بينهما، في كل قضية صغيرة أو كبيرة.
فكانت الانتخابات النيابية، المكان الأكثر بروزاً في ترجمة هذه الخلافات، ولم يتمكن الحزب دائماً من إيجاد مساحة مشتركة ووضْع ضوابط للخلاف الذي كان يخرج إلى دائرة الضوء في رفض «التيار» تسمية بري مرشحين مسيحيين في الدوائر التي تملك فيها الحركة حضوراً في الجنوب.
في ثلاث استحقاقات انتخابية، نجح «حزب الله» في إيجاد نوع من التوازن بين حليفيه مع بعض التنازلات والضغوط والإغراءات. لكن الانتخابات على أهميتها ظلت جزءاً من المشكلة المتفاقمة، في قضايا سياسية وإدارية وتفصيلية، كقضية المياومين في شركة الكهرباء، في عهد وزير الطاقة جبران باسيل والتعيينات الإدارية.
لكن القضايا الخلافية ظلت أكبر من أي تسوية يقوم بها الحزب في جولاتٍ مكوكية بين عين التينة (مقر بري) والرابية يوم كان عون يقيم فيها، قبل أن تصبح المفاوضات دائرة بين رئيس البرلمان والقصر الجمهوري ومقرّ رئيس «التيار» جبران باسيل. قد تكون أكثر الوساطات أهمية تلك التي قام بها الحزب إبان تشكيل الحكومات المتعاقبة بين عام 2005 وصولاً إلى مرحلة عهد عون.
في هذه المحطات، كان الحزب يقود تحركاً من خلال المعاون السياسي للأمين العام للحزب الحاج حسين خليل، أو المسؤول الأمني وفيق صفا مع عون وباسيل. حَلَقَةُ «الخليلين»، أي حسين خليل والمعاون السياسي لبري النائب علي حسين خليل، لم تأخذ أهميتها فقط من الوساطات مع الرئيس سعد الحريري بل أيضاً مع «التيار الحر» على مدى الأعوام الماضية عند تشكيل الحكومات والانتخابات النيابية، وما تَفَرَّعَ منها أي قانون الانتخاب. كذلك فإن صيغة «حليف الحليف» أخذت أهميتها عندما أصبح الكلام عن موقع بري كحليف لـ «حزب الله» الحليف بدوره لعون وباسيل.
اختلف الفريقان على كل شي في قانون الانتخاب، وحاول الحزب في كثير من الأوقات لعب دور «الاطفأجي»، وأحياناً من خلال وضع الكرة في ملعب بري وإعطائه دوراً مقرِّراً في صوغ القانون والتحالفات، كما كان يفعل في تشكيل الحكومات. إذ كان أمينه العام السيد حسن نصرالله بنفسه يحرص في إطلالاته أحياناً على وضع الكلمة النهائية في عهدة بري.
ومن المرات النادرة التي تَحَدَّثَ فيها عن دور الحزب الحاسم، لا دور بري، كما فعل في خطابٍ له قبل تشكيل آخِر حكومات سعد الحريري.
حاول «حزب الله» احتواء الخلاف في التقنيات السياسية، لكن بري في المقابل حفظ لنفسه موقعاً متقدماً في إدارة المجلس النيابي، أي من خلال تفسير الدستور ومن خلال أداء دور المقرِّر في شؤونه، وهذا ما حصل في أكثر من محطة سجالية ولا سيما بينه وبين عون بعدما أصبح رئيساً للجمهورية.
وهو ما جرى في شأن الخطوات التي كان عون يقوم بها من خلال توجيه رسائل إلى البرلمان أو التمسك بدوره في تشكيل الحكومة وفقاً للدستور، أو في ما يجري اليوم من محاولة عون تقديم رؤية دستورية وقانونية مختلفة في شان قانون الانتخاب، بخلاف ما يراه بري. وما السجال بينهما في الأيام الأخيرة إلا عينة من صراع كلامي دار بينهما في الأعوام الأخيرة، عبر وسائل إعلامهما، أو عبر نوابهما في ردود متبادلة.
مشكلة «حزب الله» بين الطرفين ان الاثنين قادران على أن يتسببا له بصُداع مستمر في بيئة «الثنائي الشيعي» من خلال تحرك شارع حركة «أمل» عندما يحتدم خلاف الثنائي في إدارة بعض الملفات، أو في صعود نبرة التيار ورئيس الجمهورية ضد دور رئيس المجلس النيابي. ففي نهاية المطاف لم يعد عون مجرد رئيس كتلة نيابية، بل رئيساً للجمهورية وهو أثبت صعوبة في التعامل معه فاقت ما كان يتمتع به في مرحلة نيابته. إلا أن الحزب حاول خلال خمسة أعوام من ولاية عون، أن يُبْقي التعادل قائماً بينه وبين بري، في وقت بدا الأخير يفقد هدوءه تجاه رئيس الجمهورية وباسيل، لا سيما على مشارف نهاية العهد. وهو هنا يبدو ميالاً أكثر الى عدم الخضوع لضغوطهما، فما كان يقبله مع «حزب الله» في شأن عون، لم يعد قادراً على قبوله مع استعداد باسيل لمرحلة الترشح لرئاسة الجمهورية. والمفارقة أن الحزب ترك في الأيام الأخيرة للطرفين أن يتماديا في سجالهما، ولم يتدخل للجْمه، حين انفجر تراشُق رئاسي بدا مدجَّجاً بالمناخات المحتقنة على خط عون – بري ربْطاً بمحاولات توجيه «ضربة قاضية» للمحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار والتعطيل المستمر منذ 12 اكتوبر الماضي للحكومة الأخيرة في عهد عون.
ولم يكد رئيس الجمهورية أن يغرّد «الأبرياء لا يخافون القضاء... وكما قال الإمام علي مَن وضع نفسه موضع التهمة فلا يلومَنّ مَن أساء به الظن»، حتى عاجله بري بتغريدة قال فيها «على أن لا يكون القضاء قضاء السلطة وما أدراك ما هي»، قبل أن يندلع سجال بالبيانات بين الطرفين.
ولا شك في أن بري يبدو أكثر توتراً من أي وقت سابق، وهو يذهب في الإشكال مع عون إلى الحد الأقصى. فاذا كانت حوادث الطيونة الدموية وبعدها التصويت على قانون الانتخاب، جعلت باسيل يصوّب سهامه على بري من زاوية تَساهُله مع «القوات اللبنانية»، فإن «حزب الله»، مصرّ على إبقاء المسافة بعيدة بينه وبينهما في هذه المرحلة الحساسة داخلياً وإقليمياً. إذ أصبح أكثر حاجة إلى إمساك العصا من نصفها، فلا يضغط على حليف من أجل آخَر، من دون أن يتخلى عن حذره من تطور سجالهما على أبواب الإنتخابات النيابية وصوغ التحالفات التي ستنذر بمزيد من المشكلات.